الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيهِ، أحمدُهُ حقَّ حمدِهِ لا أُحْصي ثناءً عليهِ، لهُ الحمدُ كلُّهُ أولُهُ وآخرُهُ ظاهرِهُ وباطِنُهُ، وأَشْهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأوَّلِينَ والآخِرينَ، لا إِلهَ إِلَّا هُو الرحمنُ الرَّحيمُ، وأشهدُ أَنَّ مُحمدًا عبدُ اللهِ وَرسولُهُ، اللهُمَّ صلِّ علَى محمَّدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إنَّكَ حميدٌ مَجيدٌ، أَمَّا بعدُ.
أَسعدُ اللَّحظاتِ أَيُّها الإِخْوةُ والأَخواتُ حِينَما يَقْضِيها الإِنْسانُ مَعَ كِتابِ اللهِ تعالَى تِلاوةً وَفَهْمًا للمَعْنَى وتَدَبُّرًا في آياتِ اللهِ، عِنْدَ ذَلِكَ تَنْفَتِحُ لهُ أَبْوابُ البركاتِ، نحنُ في هذهِ الحلقةِ نُحاوِلُ أَنْ نَعِيشَ هَذا الجوَّ نَتدارسُ كِتابَ اللهِ، فَنسألُ اللهَ أَنْ يَغْشانا بفضْلِهِ وَبِرحْمَتِهِ وَفضْلِهِ وَإِحْسانِهِ، وَأَنْ يَجعَلَنا مِنْ حِزبِهِ وأَوْلِيائِهِ.
ذكرَ اللهُ تَعالَى مَثْلاً لمنْ يُنْفِقُ في سَبِيلِ اللهِ تَعالَى ابْتغاءً لمرضاته -جل في علاه- في سورة البقرة فقال -سبحانه وبحمده-: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:261]، هَذا هُوَ أوَّلُ الأَمْثالِ الَّتي ذكرَها اللهُ تَعالَى في شأْنِ الإِنْفاقِ في سَبِيلِهِ.
والإِنْفاقُ في سَبِيلِ اللهِ هُوَ مِنْ أَخَصِّ صِفاتِ أَهْلِ الإيمانِ، لذلكَ يذكُرُ اللهُ تَعالَى إِيتاءَ الزكاةِ قَرِينًا لإِقامَةِ الصَّلاةِ؛ لأَنَّ بِهما تكملُ الحقُوقُ، فَإِقامةُ الصَّلاةِ أَداءٌ لحقِّ اللهِ عزَّ وجَلَّ وإِيتاءُ الزكاةِ عُنْوانُ إِصْلاحِ ما بَينَ الإِنْسانِ وَما بيْنَ الخلْقِ، وَالإِنْفاقِ في سَبيلِ اللهِ هُوَ بَذلُ المالِ لمرضاةِ اللهِ جَلَّ وَعَلا، وَهَذا يشْمَلُ كُلَّ أَوْجُهِ الإِنفاقِ الَّتي شَرَعَها اللهُ تُعالَى، سواءٌ كانتْ نفَقَةً وَاجِبَةً أوْ كانَتْ نفقةً مُسْتحبَّةً، فنَفَقَةُ الإِنْسانِ عَلَى ولدِه هِيَ مِنَ الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ، نفقةُ الإنسانِ علَى زوجهِ هِيَ منَ الإِنْفاقِ في سبيلِ اللهِ، نَفقةُ الإِنْسانِ عَلَى أهْلِهِ مِنْ والدِيْنِ وَذَوَيش أرْحامٍ هِيَ مِنَ الإنفاقِ في سبيلِ اللهِ إِذا كانَتْ وَاجِبَةً كَما أَنَّها تَكُونُ مِنَ الإِنْفاق في سَبِيلِ اللهِ إِذا كانَتْ مُسْتحبَّةً عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ، أَوْ البرِّ، أَوِ الإِحْسانِ، أَوِ الهدَيَّةِ، أَوْ الهبَةِ أوْ غيرِ ذلكَ إِذا أرادَ بِذَلِكَ وجْهَ اللهِ تَعالَى.
يَقُولُ اللهُ تعالَى في بَيانِ عَظِيمِ أَجْرِ مَنْ يُنْفِقُ في سَبيلهِ، ما الَّذِي يُنْتِجُ عَنِ الرِّيالِ الدِّرهَم الدَّينار الدُّولار الفِلْس القرْش الَّذي تُنفِقُهُ في سبيلِ اللهِ؟ ما الَّذِي يترتَّبُ عليْهِ؟ اسمعْ لهذا المثلِ حَتَّى تَعْرِفَ عَظِيمَ العَطاءِ الَّذِي تَنالُهُ مِنَ اللهِ، إِنَّ اللهَ بِفَضْلِهِ وكرمِهِ يُعْطِي علَى القَلِيلِ الكثيرَ يَقُولُ -سُبحانَهُ وبحمدِهِ- ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ صُورةُ الَّذِي يُنْفِقُ أَمْوالَهُ في سَبيلِ اللهِ، يُنْفِقُ المالَ الحلالَ الطيِّبَ، فاللهُ طَيِّبٌ لا يقبلُ إِلَّا طَيِّبًا، في سبيلِ اللهِ ابْتغاءَ مَرْضاتِ اللهِ لا يَرْجُو مِنْ ذلِكَ جَزاءً وَلا شُكُورًا، ليْسَ لَهُ غرضٌ في مَدْحِ الناسِ وَثَنائِهِمْ ولا في إِطرائِهمْ وَذِكْرِهِمْ في هَذا العَمَلِ، إِنَّما كَما قالَ اللهُ: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9]
هذانِ الشَّرطانِ اللَّذانِ ذَكرهُما اللهُ تَعالَى لمضاعَفَةِ الأُجُورِ في هَذِه الآيةِ، يَقولُ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ﴾ الحبة كالبُرّ والشعيرِ وغيرهُ مِمَّا يَقْتاتهُ النَّاسُ مِنَ الحُبُوبِ.
﴿أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ﴾هَذِهِ الحبَّةُ يَضَعُها المزارعُ في الأَرْضِ ثُمَّ هَذِهِ الحبَّةُ تُنْبتُ بإذنِ اللهِ -U- سبعُ سنابلُ، وَالسُنْبُلَةُ هِيَ مَجْمَعُ الحبِّ، ﴿فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾فعِندنا سبعُ سَنابلُ في كُلِّ سُنْبلَةٍ مائَةِ حَبَّةٍ، إِذًا الحصيلَةُ النَّاتِجةُ عَنْ تِلْكَ الحبةِ هِيَ سُبْعمائةٌ مِنَ الحُبوبِ، سُبْعمائِةِ حَبَّةٍ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَعَطاءً.
إِنَّ الدِّرْهَمَ الَّذِي تَدْفَعُهُ، إِنَّ الرِّيالَ الَّذي تُنْفِقُهُ، إِنَّ الجنيه أَو الدِّينارَ أَوِ القرشَ أَوِ الفِلْسَ الَّذِي تبذُلُهُ مِنْ حَلالٍ تَبتغِي بِهِ مَرْضاةَ اللهِ، هَذا ما سَتجِدهُ عِنْدَ اللهِ، إِنَّهُ ينْمُو، إِنَّهُ يكبرُ، إِنَّهُ يَتكاثَرُ بِفضلِ رَبِّ العالمينَ، يقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلا-: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[البقرة:261].
قَولُهُ تَعالَى: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أي اللهُ تَعالَى يَزيدُ عَلَى هَذا العَددِ لمنْ يَشاءُ مِنْ عِبادهِ، فَهُوَ العليمُ الخبيرُ جَلَّ في عُلاهُ، وَلِذلِكَ قالَ: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾، وتأَمَّلْ كيفَ ختمَ اللهُ هَذا المثلَ باسْميْنَ مِنْ أَسمائِهِ وَصِفَتيْنِ مِنْ صِفاتِهِ، وَالواسِعُ الواسُعُ في عَطائِهِ، الواسِعُ في كَرمِهِ، الواسِعُ في فضْلِهِ، الواسِعُ في إِحْسانِهِ، الواسِعُ في كُلِّ صفةِ جَلالِهِ سُبْحانَهُ وَبحمدِهِ، فَاللهُ واسعُ، والواسِعُ يُعْطِي عَطاءً واسِعًا، فهَذا الَّذي ذَكرهُ اللهُ منَ المضاعفَةِ هُوَ مِنْ سِعَةِ فضْلِهِ وَسِعةِ إِحْسانِهِ وَسِعَةِ كَرمِهِ جَلَّ في عُلاهُ، أَنْتَ تَتعامَلُ مَعَ اللهِ الَّذِي لا يَنْقُصُ مُلكُهُ مَهْما أَعْطَى عِبادَهُ، «يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْت كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَته، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»[صحيح مسلم(2577)] ، هلْ ينْقُصُ مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ؟ واللهُ لا ينْقُصُ شَيْءٌ، لا ينقصُ هَذا مِنَ البحرِ شَيْئًا فَذاكَ فضْلُهُ، اللهُ وَاسِعٌ وَهُوَ عليمٌ.
والسرُّ في ختمِ هذِهِ الآيَةِ بِأنَّهُ عَلِيمٌ؛ لأَنَّ عَطاءَهُ وَفْقَ علْمِهِ، فَهُوَ العَلِيمُ بِالمقاصِدِ والنوايا والإراداتِ، ولماذا أَنفقْتَ وَلماذا أَعْطيْتَ؟ وكمْ أعطيتَ؟ ولمنْ أَعْطيْتَ؟ ومَتَى أَعْطَيْتَ؟ وَفي أَيِّ مَكانٍ أَعْطيْتَ؟ كَلُّ ذلكَ وَسعه علمُ العليمِ الخبيرِ الأولِ الآخرِ الظاهرِ الباطنِ الَّذِي هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ سُبحانَهُ وَبحمدِهِ، وَهَذا يُعْطِيكَ يقينٌ أنهُ لنْ يَضِيعُ عِنْدَ رَبِّنا شَيْئًا -جَلَّ وَعَلا-: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة:143]، فاللهُ لا يَضِيعُ عَمَلُ عاملٍ، فَما كانَ مِنْ عَمَلِكَ أَحْصاهُ، ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾[المجادلة:6]، كَمْ مِنْ دِرْهَمٍ كَمْ مِنْ دِينارٍ تنفقُهُ عَلَى أوْلادِكَ في بيتِكَ هَلْ احتسبْتَ في ذلكَ الأَجْرِ عِنْدَ اللهِ، كَمْ مِنْ دِينارٍ؟ كَمْ مِنْ دِرْهَمٍ كَمْ مِنْ رِيالٍ تُنفقِينَهُ عَلَى زَوْجِكَ وَوَلَدِكَ هَلْ احْتَسبْتَ ذلِكَ عندَ اللهِ، إِنَّ الاحْتِسابَ في هَذا عِنْدَ اللهِ يَكْفُلُ لَكُمُ الأَجْرَ والمثوبَةَ مِنَ الكَرِيمِ، مِنَ الواسِعِ العلِيمِ جَلَّ في عُلاهُ.
كَما أَنَّهُ يَكْفُلُ لَكُمْ خَلَفًا، فإِنَّ اللهَ قَدْ أَرْصَدَ مَلَكًا كُلَّ يَوْمٍ يَقُولُ: «اللهُمَّ أَعْطِ منْفَقًا خَلَفًا وأَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»[صحيحُ البُخاريِّ (1442)، ومُسْلِم (1010)]، فذاكَ الَّذي أَمْسكَ عَمَّا يجبُ علَيْهِ مَوْعُودٌ بِالتَّلَفِ والهَلاكِ، وذاكَ الَّذِي سَخَتْ يدُهُ بَذْلاً وَإِحْسانًا فإِنَّهُ سَيَلْقَى مِنَ اللهِ نَظِيرَ ما عاملَ بِهِ الخلْقَ، ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[البقرة:195]، تذكَّرْ هَذا المثالَ لِتَتَعَلَّمَ وتعْرِفَ أَنَّ اللهَ عطاء الله واسع فإذا تقربت منه شبرًا تقرب إليك ذراعًا، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة فهو الكريم المنان.
اللهم إنا نسألك من فضلك عطاءً واسعًا، ونسألك من فضلك يقينًا راسخًا، وأن تجعلنا من حزبك وأوليائك، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.