الحمدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طيبًا مُباركًا فِيهِ، أَحْمدهُ حَقَّ حمْدِهِ، لهُ الحمدُ كُلُّهُ لا نَبْلغُ حقَّهُ في الحمدِ؛ فهوَ أَجَلُّ محمُودٍ لهُ الحمدُ وَهُوَ يُحِبُّ الحمْدَ، وأَشْهدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرينَ، وأَشْهدُ أَنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ وَرسولُهُ، صَفِيهُ وخليلُهُ خيرتُهُ منْ خَلْقِهِ، اللهمَّ صَلِّ عَلَى محمَّدٍ وعَلَى آلِ محمَّدٍ كَما صَلَّيتَ علَى إِبراهِيمَ وعَلَى آل إِبْراهيمَ إِنَّكَ حميدٌ مجيدٌ أَمَّا بعْدُ..
فأَهلًا وسهْلًا، وحِياكمُ اللهُ أَيُّها الإِخْوةُ والأَخواتُ في هَذهِ الحلقةِ الجديدةِ.
العملُ الصالحُ هُوَ خيرُ ما يخرجُ بِهِ الإنسانُ مِنْ هذهِ الدُّنْيا، أَنْفسُ ما يُصاحبُكَ عِندَما تغادِرُ هَذِهِ الدُّنيا هُوَ ما مَعَكَ مِنَ العَملِ الصَّالحاتِ، يقولُ اللهُ تَعالَى في محكم كِتابهِ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[البقرة: 197] فإنَّ اللهَ يُرافقُكَ إِذا غادرْتَ مِنْ هذهِ الدُّنْيا أَنْ يكونَ مَعكَ عَملٌ صالحٌ تسعدُ بِهِ، فإنهُ رفيقكَ في قبركَ، رفيقُكَ يومَ الحشْرِ وَالنشُورِ، سَببًا لِنجاتِكَ وَدُخُولِكَ الجنَّةَ فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الزخرف: 72]، اللهُمَّ اجعلْنا منهُمْ يا ربَّ العالمينَ.
أنْتَ يومَ القِيامَةِ سيقترنُ بكَ عَملكَ، ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الإسراء: 13- 14] يكْفِي علَيْكَ شاهِدٌ وحسيبُ نفسكُ لِذلكَ ينْبَغِي لَنا أَنْ نحرصَ عَلَى أَعْمالِنا.
أَعْمالُنا هِيَ مَطايانا يومُ القِيامةِ، يومُ القِيامةِ ليْسَ السبقُ فِيها بِنسبٍ، وَلا بحسبٍ، وَلا بِمالٍ، وَلا بمنصِبٍ، وَلا بولَدٍ، وَلا بجاهٍ، وَلا بِشيءٍ مِنْ هَذا كلِّهِ مِمَّا يتسابَقُ فِيهِ الناسُ في هَذهِ الدُّنْيا، إِنَّما السَّبقُ الحقيقِيُّ في الآخرةِ هُوَ بِالعمَلِ الصالحِ يَقُولُ النبيُّ –صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: «مَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ»[صحيح مسلم (2699)].
يعني مَنْ أخَّرَهُ عملهُ فلمْ يكُنْ مِنَ المتقَدِّمينَ يوْمَ القيامَةِ، لا ينفعُهُ أَنْ يأْتِيَ يَوْمَ القِيامَةِ وَهُوَ فُلانُ بْنِ فُلانا وأَنَّهُ صاحِبُ النَّسَبِ الفُلانِيِّ، أَوْ أَنَّهُ صاحِبُ المالِ الفُلانيِّ، المنصبُ الفُلانِيُّ، كلُّ ذلكَ لا يَنْفَعُ إِنَّما ينْفَعُكَ ما يَكُونُ مِنْ عَمَلِكَ.
عَملُكَ ثروةٌ عُظْمَى وَلَوء كانَ أَحْقَرَ ما تراهُ مِنَ العمَلِ الصَّالحِ فَحافِظْ عَلَيهِ، ثروةٌ عُظمَى حتَّى لَوْ كانَ تَبَسُّمًا في وجْهِ أَخِيكَ، حَتَّى لَوْ كانَ دِرْهَم، دينار، حَتَّى لَوْ كانَ رَكْعةً، سجدةً، احْرِصْ عَلَى عملكَ فعملُكَ هُوَ مطيتُكَ الَّتي تنْجُو بِها يومَ القيامَةِ، لِذلكَ يَقُولُ اللهُ تَعالَى في مُحكَمِ كِتابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾[محمد: 33]، ثُمَّ يُحَذِّرُنا مِنَ التَّفريطِ فِيما اكْتسبناهُ منْ طاعتهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ فَيَقُولُ: ﴿وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾[محمد: 33] لماذا تبطلُ الأعمالَ؟
لأنَّ أعظمَ ما يبطلُ الأَعمالَ المعصيةُ، ولذلكَ قالَ مجاهِدٌ وغيرهُ منْ أَهلِ العِلْمِ: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالكُمْ بِمَعْصِيتِكُمْ رَبَّكُمْ والمعصِيةُ دَرَجاتٌ وَمراتِبُ فإِنَّ كُلَّ سيِّئَةٍ مَهْما دَقَّتْ تٌؤثرُ عَلَى ما عِنْدَكَ مِنْ رَصِيدٍ الحسناتِ؛ لأَنَّ يومَ القِيامَةِ تُؤْتَى الحَسناتُ وتوضَعُ في كِفَّةِ، وَيُؤْتَى بِالسَّيِّئاتِ فتوضَعُ في كِفَّةٍ، فأَيُّما رَجَحَ كانَ ذلكَ مَصِيرَ الإِنْسانِ إِمَّا إِلَى جَنَّةٍ، وَإِمَّا إِلَى نارٍ، فَرِيقٌ في الجنَّةِ، وفريقٌ في السَّعيرِ.
إنَّهُ مِنَ المهمِّ أَنْ نعْرِفَ أَنَّ مُبَطِلاتِ الأَعْمالِ مُتنوعِةٌ وكثيرةٌ، ليَسَتْ محدودَةً بِنَمَطٍ أعْظَمُ ذَلِكَ الشركُ بِاللهِ تَعالَى، فَإِنَّ الشِّرْكَ يُحْبِطُ العَملَ، وَمَعْنَى أَنَّهُ يُحْبِطُ العَمَلَ أَيْ أَنَّهُ يمحقَهُ، نزيلهُ لا نبْقِي مِنْهُ شَيْئًا يَذْهَبُ بِهِ بِالكُلِّيَّةِ.
لذلكَ كانَ الشركُ أَعْظَمَ الموبِقاتِ وأخْطَرَ السيئاتِ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ﴾[الزمر: 65]، هَذا الخِطابُ لِلنَّبيِّ –صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- وللمْرَسلِينَ يَقُولُ اللهُ في محكمِ كِتابِهِ: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر: 65] أَيْ: لئِنْ وَقَعْتَ في الشَّرْكِ سيحبطُ عملُكَ إِذا كانَ هَذا عَمَلُ النبيِّ –صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فكيفَ بِعملِ غيرِهِ إِنَّ الشِّرْكَ ظُلمٌ عظيمٌ، يجبُ علَى المؤْمِنِ أَنْ يتوَقَّاهُ وأَنْ يخافُهُ، وَالشركُ هُوَ صَرْفُ أيِّ عبادةٍ لغيرِ اللهِ تَعالَى، سواءٌ كانتْ صلاةً، زكاةً، حَجًّا، صَوْمًا، كُلُّ هذهِ العباداتِ إذا صُرِفتْ لِغيرِ اللهِ تعالَى ولَوْ كانَتْ واحِدةً مِنْها سَببٌ مِنْ أَسْبابِ حُبوطِ العَملِ.
لذلكَ ينبغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يحذِّرَ مِنْ حُبوطِ عَملِهِ، وَحُبُوطُ العملِ يجعَلُ الإِنْسانَ كَما لَوْ لمْ يَعْمَلْ يَذْهبُ بِحسناتهِ، وقدْ قالَ اللهُ تعالَى في محكَمِ كِتابهِ: ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة: 217]، وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمانِ فقَدْ حَبِطَ عملُهُ، ولَذِلكَ يَنبغِي لِلمُؤمِنِ أَنْ يحرِصَ عَلَى النأْيِ بنفسهِ عَنْ مُحبطاتِ العملِ، فإنَّ محبطاتِ العملِ كثيرةٌ متنوعِةٌ إذا غَفَلَ عَنْها الإنسانُ تَورَّطَ فيها، ومِنْ ذلِكَ أَنْ يَكرهَ شَيْئًا مما أَنزلَهُ اللهُ تعالَى، فقدْ قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾[محمد: 8- 9]، والكرهُ هُنا ليسَ أنْ العِبادةَ شاقَّةٌ، إِنَّما الكرهُ هُنا المقْصُودُ بهِ كَراهيةُ التشريعِ، كراهِيةُ الامْتِثالِ، كراهِيةُ أَنَّ اللهَ أمرَ بِكذا وعَدَمِ قبولِهِ، أَمَّا أَنْ يجدَ الإِنْسانُ مَشقةً مَنْ عَمَلٍ صالحٍ أوْ يجدُ أَلمًا لتكليفهِ بِعملٍ مِنْ أَعْمالٍ فَهَذا لَيْسَ مِمَّا نَهَى اللهُ تَعالَى عَنْهُ وَرَسولُهُ، إِنَّ منْ محبطاتِ الأَعْمالِ أَنْ يمنَّ الإنسانُ بِعملٍ صالحٍ عَلَى ربهِ، أَوْ عَلَى الخلْقِ فِيما إِذا كانَ صَدقةً، فَإِنَّ ذلِكَ يُحبطُ العَملَ وقَدْ ذكرَ اللهُ تَعالَى مثلَ ذلِكَ في كِتابِهِ.
ومما يحبطُ العملَ التَّفريطُ في الصَّلاةِ، فقَدْ جاءَ في الصَّحيحِ مِنَ الحديثِ الَّذِي عندَ البُخاريِّ رضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ «مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه»[صحيح البخاريِّ (553)] هَكذا يخبرُ النبيُّ –صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ- بخطُورَةِ تَرْكِ صَلاةٍ واحدَةٍ، أَنَّ ترْكَ صَلاةٍ واحِدَةٍ سَببٌ لحبوطِ العملِ وقدِ اختلفَ العُلماءُ في ما المرادُ بِالعملِ الَّذي يُحبطُ؟ هَلْ هُوَ كُلُّ العَمَلِ أَمْ أَنَّهُ عَمَلُ ذلكَ اليومِ أَوْ ماذا؟
وَعلَى كُلِّ حالِ تَرْكُ الصَّلاةِ منْ محبطاتِ الأَعْمالِ، «العهدُ الذي بينَنا وبينَهم الصلاةُ، فَمَنْ تَرَكَها فَقَدْ كَفَرَ»[سننُ الترمذِيِّ (2621)، وقالَ: هَذا حديثُ حَسنٌ صحيحٌ غريبٌ] كَما في الصحيحِ مِنْ حديثِ جابرٍ[الَّذي في صَحِيحِ مُسْلِمٍ (82) مِنْ حَدِيثِ جابرٍ هُو قولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: «بينَ الرَّجُلِ وبينَ الشركِ والكفْرِ تركُ الصلاةِ»].
أَدْعُو نفْسِي وَإِخْواني إِلَى الحرصِ علَى الأَعْمالِ الصَّالحةِ، تُوقَّوْا كُلَّ ما يَذهبُ بحسناتِكُمْ إِذا كانَ عِنْدَكَ رِصيدٌ وَتجارةٌ، فأَنْتَ ستحرِصُ حِرْصًا شَدِيدًا عَلَى أَلَّا يأْتي ما يجتاحُ هَذا المالَ، أَلَّا يأْتي ما يُفسِدُ هَذهِ التجارةَ بِأَيْ نَوْعٍ مِنْ أَنْواعِ الفَسادِ عملك الصالحُ أهمُّ مِنْ كُلِّ تجارةٍ، إِنَّهُ تَجارةٌ لَنْ تَبُورُ هُوَ تجارَةٌ مَعَ الكرِيمِ المنَّانِ، فاحْرِصْ عَلَى عَملكَ الصَّالحِ واحذَرْ أَنْ يُصِيبَهُ خَلَلٌ، أوْ أَنْ يعتريهِ ويتناولَهُ حُبوطُ فإنَّ ذَلِكَ يَذْهَبُ بحسناتِكَ.
اللَّهمَّ أَلْهمْنا رُشْدَنا، وَقِنا شرَّ أَنْفُسِنا إِلَى أَنْ نلْقاكُمْ في حلقَةٍ قادِمَةٍ، أَسْتودعُكُمُ اللهَ الَّذِي لا تَضِيعُ ودائِعُهُ وَالسلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وَبركاتُهُ.