الحمدُ للهِ نحمدهُ ونستعِينُهُ ونستغْفِرهُ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أِنْفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَنٍ يُضْللْ فلنْ تجدِ لهُ وَليًّا مُرْشِدًا.
وأَشْهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدهُ لا شَريكَ لهُ، وأشهدُ أَنَّ مُحمدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صفيُّهُ وخَلِيلُهُ، خِيرتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، بَعَثَهُ اللهُ بِالهدَى ودِينِ الحَقِّ بينَ يَدَيِ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، داعِيًا إِلَيْهِ بِإِذِنهِ وَسِراجًا مُنِيرًا، بَلَّغَ الرِّسالَةَ، وَأَدَّى الأَمانَةَ، وَنَصَحَ الأُمَّةَ، وَجاهَدَ في اللهِ حقَّ الجِهادِ، فَصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ سنتهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانِ إِلَى يومِ الدِّينِ، أَمَّا بعْدُ..
فأهلًا وَسهْلًا بِكُمْ أَيُّها الإِخْوةُ والأَخواتُ، حياكُمُ اللهُ في هَذِهِ الحلَقَةِ الجديدَةِ، نتناولُ فِيها مَثلًا يبينُ فِيهِ اللهُ –عزَّ وجلَّ- حال المعاندينَ المكذبينَ الَّذينَ لم يُؤْمِنُوا بِالرُّسُِلِ في إِنْفاقِهِمْ وَما يَبْذُلونَهُ في سائرِ صَرْفِهِمْ الذِي يصرفُونَهُ في هَذِهِ الدُّنْيا.
اللهُ تَعالَى قَسَّمَ النَّاسَ إِلَى قِسْمَيْنِ؛ مُؤْمِنٍ، وَكافِرٍ.
وهَذا لا يُمْكِنُ أَنْ يُلْغَى فإِنَّهُ قِسْمَةٌ اللهِ للناسِ مِنكمْ كافرٌ ومنكُمْ مُؤْمِنٌ، واللهُ تعالَى رَتَّبَ عَلَى هذيْنِ الوصْفَيْنِ أَحكامًا في الدُّنْيا وَفي الآخِرَةِ، الَّذِينَ كذَّبُوا الرُّسُلَ يُنْفِقُونَ جُمْلَةٍ مِنَ النَّفَقاتِ فَما نَشْأَةُ هَذِهِ النَّفَقاتِ؟ وَما هِيَ صُورَتُها الَّتي تبينُ مآلَها وَمُنْتَهاها، يَقُولُ اللهُ -جلَّ في عُلاهُ-: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ﴾[آل عمران: 117]، أيْ أَهْلُ الكفرِ الَّذينَ غالِبًا ما يَقْتِرِنُ حالهُمْ بِوَفْرَةِ المالِ وكَثْرَتِهِ، لأَنَّ اللهَ قَدْ ذكرَ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[آل عمران: 116].
الغالبُ في الكُفَّارِ أَنْ يفتحَ اللهُ تَعالَى عليهِمْ مِنَ الأَمْوالِ ما يَكُونُ اسْتِدْراجًا لهمْ، بلْ قَدْ قالَ اللهُ تَعالَى في مُحكمِ كِتابِهِ: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الزخرف: 33- 35]، فاللهُ تَعالَى يخبرُ أنهُ لَوْلا أنْ يَفْتِنَ الناسَ، فيتركُ الاسْتقامَةَ وَالهدَى لفتحَ عَلَى أهلِ الكفْرِ مِنَ النعَمِ في الدُّنْيا ما يَتَمَيَّزُونَ بِهِ علَى الناسِ في مآكلهمْ وَمَشاربهِمْ وَسائِرِ شُئونهِمْ.
لكنْ مِنْ رَحمتِهِ -جَلَّ في عُلاهُ- أَنْ جعلَ الغِنَى هُنا وهُناكَ، فالمؤْمِنُ منهُمْ المؤْمِنُونَ منهمْ مَنْ هُوَ غَنِيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنء هُوَ فَقِيرٌ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الكفرِ منهمْ مَنْ هُوَ غَنِيٌّ، ومنهُ مَنْ هُوَ فَقِيرٌ.
لَقيَ رَجلٌ مِنَ الكفارِ "ابْنَ حجرٍ" الإِمامَ الشَّهِيرَ صاحِبَ "فَتْحِ الباري" وكانَ زيَّاتًا، وابنُ حَجَرٍ كبيرُ قُضاةِ مِصْرَ في زَمانِهِ، وكانَ يمْشِي ومعهُ مَنْ يحرُسُهُ وَيُمَهِّدْ لَهُ المسيرَ، فاسْتَوقفَهُ ذلِكَ الكافِرُ وَكانَ زيَّاتًا يَشْتَغِلُ بِالزِّيْتِ فَقِيرًا، فَقالَ: إِنَّكُمْ تقُولُونَ الدُّنْيا سِجْنُ المؤمنِ وَجنةُ الكافِرِ، فَكيفَ يكونُ ذلكَ وَهَذا أَنْتَ عَلَى ما أنْتَ وَهَذا أَنا عَلَى ما أَنا؟
فقالَ لَهُ ابْنُ حَجرٍ جَوابًا مُسَدَّدًا سَرِيعًا، قالَ: أَنْتَ فِيما سَتكونُ في الآخِرَةِ تُعْتبرُ في جنةٍ، وأَنا بِالنظرِ إلَى ما سَيُؤُولُ إلِيْهِ حالُ المؤمْنِ في الآخِرَةِ أَنا في سِجْنِ.
هَكذا يُسَدَّدُ الجوابُ في بَيانِ حالِ المؤْمِنِ وَحالُ الكافِرِ بِالنظرِ إِلَى ما يكونُ في الآخِرةِ الدارُ الَّتي هِيَ دارُ القَرارِ مِنْ نَعِيمِ وَعَذابِ، اللهِ تَعالَى يمثِّلُ لَنا نَفَقات الكفارِ فَيقُولُ: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[آل عمران: 117]، في مُتعهمْ في ملذَّاتهِمْ في حَربهِمْ لِلرُّسُلِ وَمُعاداتهمْ لأولياءِ اللهِ تَعالَى، بل حتَّى فِيما يُنْفِقُونَهُ في الأَعْمالِ الصَّالحةِ النَّافِعَةِ مِثْلُ ما يُنْفِقُهُ الكفَّارُ في كُلِّ هَذِهِ الأَوْجُهِ المخْتَلِفَةِ ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ﴾[آل عمران: 117]، ريحُ غالبًا ما يأْتِي إِفرادُ لَفْظِ الريحِ في القُرآنِ فِيما يَقْترِنُ بِالعَذابِ، يَعْنِي رياحَ ريح، الرياحُ تأْتي غالِبًا فِيما يكُونُ مُرافِقًا لِلبركَةِ وَالخيرِ مِنْ أَمْطارِ، وَالريحُ فِيما يكُون عَذابًا وشُؤْمًا وَعُقُوبَةً عَلَى مَنْ سَلَّطَتْ عَلَيْهِ وأرسلَتْ عليهِ.
يقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ﴾[آل عمران: 117]، هذهِ الريحُ ليستْ مجردَّةً، بَلْ يَقْتَرِنُ مَعَها شَيْءٌ قالَ: ﴿فِيهَا صِرٌّ﴾[آل عمران: 117]، والصِّرُّ هُوَ البردُ الشَّدِيدُ، وقِيلَ: الجلِيدُ، وقِيلَ: نارٌ محرقَةٌ، وأَصْوَبُ ما يُقالُ في تعْرِيفِ الصِّرِّ أَنَّها رِيحٌ ذاتُ صوتٍ وإِحْراقٍ.
والإِحْراقُ إِمَّا أَنْ يكونَ لِشِدَّةِ برْدِها، وَإِمَّا أَنْ يكُونَ لِشِدَّةِ حَرِّها، وَهَذا الإِحْراقُ الَّذي قارنَ هَذِهِ الريحَ ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ﴾[آل عمران: 117]، أصابتْ مزرعَةً، بُسْتان، حديقة، جنة، أَصابتْ حَرْثَ قوْمٍ ظلمُوا أَنْفُسَهُمْ بِماذا ظلمُوا أنفسهُمْ؟ بالكُفْرِ، بِالشِّرْكِ، بِالمعاصِي، بِالسيئاتِ، فأهلكتهُ، أي: أتلفتْهُ ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[آل عمران: 117].
هَكذا يُخْبرُ اللهُ تَعالَى في هَذا المثَلِ عَنْ مآلِ وَمَصِيرِ نَفقاتِ الكُفَّارِ بِكُلِّ أَوْجُهِ الإِنْفاقِ، ما ينفقونهُ في حرْبِ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَفي أَذِيَّةِ عِبادِ اللهِ وَأَوْليائِهِ يَتَبَدَّدُ وَيحترقُ وَيَزُولُ، كَما قالَ اللهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾[الأنفال: 36].
ما يُنفقُونهُ في مَلَذَّاتهمْ أَيْضًا يُحاسَبُونَ عليْهِ، فإِنَّ الكافِرَ يُحاسَبُ عَلَى كُلِّ ما يُنْفقُهُ منَ الأَمْوالِ في دُنْياهُ حِسابًا دَقِيقًا عَلَى النَّقِيرِ وَالقِطْمِيرِ، ما يُنفقُونَهُ في الأَعْمالِ الراشدَةِ الصَّالحةِ هَلْ لَها نَفْعٌ في الآخِرَةِ؟
الجوابُ. لا يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان: 23]، لماذا؟ لأَنَّهُمْ لمْ يَقْصِدُوا اللهَ –جَلَّ وَعَلا- لأنهمْ فَقَدُوا السبَبَ الَّذي هُوَ شَرْطُ قَبُولِ الأَعْمالِ، إِنَّ شَرْطَ قَبُولِ كُلِّ عَمَلٍ أَنْ يَكُونَ للهِ خالِصًا، أَنْ يَكُونَ يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَهُ، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف: 110].
فكُلُّ عَمَلٍ يُخْلِصُ مِنْ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى صاحِبِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَعْمالُ أَهْلِ الكُفْرِ، فَإِنَّها مَرْدُودَةٌ عَلَى أَهْلِها لا يَقْبلُها اللهُ تَعالَى، بَلْ يُبْدِلُها، وَقَدْ سأَلْتِ النبيَّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ جُدْعانٍ وَكانَ رَجُلًا ذا إِنْفاقٍ في الجاهِليَّةِ، أَيَنْفَعُهُ ما كانَ يَعْملُهُ في الجاهلِيَّةِ؟ فقالَ النبيُّ –صَلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ-: «لا، إنهُ لمْ يقُلْ يَوْمًا اللهُمَّ اغفِرْ لي خطِيئتي يَوْمَ الدِّينِ»[صحيحُ مسلمٍ (214)]، أيْ أنهُ لمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ باليوْمِ الآخِرِ، فَكُلُّ ذَلِكَ ذَهبَ، هَلْ يَظْلِمُ اللهُ النَّاسَ شَيْئًا؟ لا حاشا الله أنْ يَظْلَمَ النَّاسَ شَيْئًا.
ولذَلِكَ خَتَمَ الآيةَ هُنا بِأَنَّهُ لا يَظْلِمُهُمْ مَعَ أَنَّهُمْ يُنْفِقُونَ قالَ: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾[آل عمران: 117]، «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا»[صحيحُ مسلمٍ (2577)]، فاللهُ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا، وَهَذِهِ الأَعْمالُ الصَّالحةُ يُجْزَوْنَ بِها في الدُّنْيا بما يُمتِّعُهُمُ اللهُ تَعالَى بِهِ مِنَ العافِيةِ وَالصَّحةِ والقوة والرزق والنعم وما إلى ذلكَ مما يُؤْتونُهُ في الدُّنْيا.
لكِنْ في الآخِرَةِ ما يَقدرْ بِما يَنْفعُهُ، بلْ يقدمُ بِلا عَمَلٍ يَعُودُ عَلَيْهِ بِالنَّفْعِ، فَيُحْبِطُ كُلَّ عَمَلِهِ ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزمر: 65]، إذا كانَ هَذا في حَقِّ النَّبِيِّ، فَغيرُهُ مِنْ بابِ أَوْلَى.
إِلَى أَنْ نلقاكُمْ في حلْقَةٍ قادِمَةٍ منْ بَرنامجكُمْ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لا تَضِيعُ وَدائِعُهُ، والسَّلامُ عليكُمْ وَرحمةُ اللهِ وَبركاتُهُ.