الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُباركًا فِيهِ، كَما يُحِبُّ رَبُّنا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أَثْنَي عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَفِيِّهُ وخليلُهُ، خيرتُهُ مِنْ خَلْقِه، بَعَثهُ اللهُ بِالتوحِيدِ دَاعِيًا إليهِ بإذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا، بَلَّغَ الرسالَةَ وأَدَّى الأَمانَةَ، نَصَحَ الأُمَّةَ، جاهَدَ في اللهِ، حَتَّى أَتاهُ اليقينُ عَلَى ذَلِكَ، اللهمَّ صَلِّ علَى محمدٍ وعَلَى آلِ محمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، أَمَّا بَعْدُ..
فَحياكُمُ اللهُ أَيُّها الإِخْوَةُ وَالأَخَواتُ، في هَذِهِ الحلْقَةِ نَتَناوَلُ مَثَلا، قالَ فِيهِ رَبُّنا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج: 73] إِنَّهُ المثلُ الوحيدُ الَّذي نادَى اللهُ تعالَى فِيهِ النَّاسُ كافَّةً وَأَمرهُمْ بِالاسْتِماعِ إِلَيْهِ لماذا؟
لأَنَّهُ يَتعلَّقُ بأعظَمِ الحُقوقِ، إنَّهُ يتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللهِ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بحقِّهِ في عِبادَتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَهَذا هُوَ أَمْرُ اللهِ لِلأَوَّلينَ وَالآخِرينَ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 21]، هذهِ أوَّلُ آيَةٍ نادَى اللهُ النَّاسُ فِيها في القُرْآنِ العَظِيمِ، وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ تَضمَّنَتْ أَمْرًا صَرِيحًا بَيِّنًا أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 21].
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ وَحِّدُوهُ وَتَوْحِيدِهِ هُوَ مَعْنَى لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
إِنَّ اللهَ تَعالَى في هَذا المثلِ دَعا الناسِ كافَّةً، وأَمَرَهُمْ بِالاسْتِماعِ لأَنَّ الاسْتِماعَ وَسِيلَةُ الفهْمِ، ولذلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الأعراف: 204] فالاستِماعُ هُوَ الوسيلَةُ وَالطَّريقُ الَّذي يَتَفَهَّمُ فِيه الإنسانُ كَلامَ ربِّ العالمينَ، وَيُدْرِكُ مَعاني قَوْلِهِ جَلَّ في عُلاهُ، لِذلِكَ مِنَ المهِمِّ أَنْ يَعْتَنِي المؤْمِنُ بِالإنْصاتِ لِلقُرْآنِ، السماعُ لِلقُرْآنِ، لِلتَّدبُّرِ لَهُ لأَنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ الوٌصٌولِ إِلَى مَعانِيهِ وَإِلَى مَقاصِدِهِ، وَإِلَى ما أَرادَهُ رَبُّ العالمينَ بِهَذِهِ الرِّسالَةِ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج: 73] وَالضَّارِبُ هُوَ اللهُ جَلَّ في عُلاهُ.
ضَرَبَ المثَلَ وَقَدْ قالَ: ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾[الفرقان: 33]، جاءَ اللهُ بِأَحْسَنِ الأَمْثالِ، وَمِنْ أَحْسَنِ هَذا المثالِ الَّذِي يُقَرِّرُ حَقَّ رَبِّ العالمينَ في عِبادَتِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا﴾[الحج: 73] أَيْ كُلُّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ هَذا الَّذي ذَكرَ رَبُّ العالمينَ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ في القَدِيمِ وَالحَدِيثِ، سَواءٌ كانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الانْفِرادِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الاجْتِماعِ.
بمعْنَى أَنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، الشَّمْسُ لا تَستطيعُ أَنْ تَخْلُقَ ذُبابَةً، الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ لا يَسْتَطِيعُ هَذِهِ الكَواكِبُ لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ ذُبابًا، كُلُّ آلهةِ الدُّنْيا الَّتي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ مِنَ الملائكَةِ وَالصَّالحينَ وَالأَصْنامِ وَالأَشْجارِ والحجارِ وَالجبالِ كُلِّها لا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْلُقَ ذُبابَةً.
وَالذُّبابُ أَحْقَرُ ما يَكُونُ مِنَ الحَيواناتِ، وَلِذَلِكَ تَحَدَّى اللهُ بِخَلْقِهِ في أُولَئِكَ الذينَ يُضاهُونَ بِخلْقِ اللهِ وَيُصَوِّرُونَ خَلْقَ اللهِ تَعالَى عَلَى وَجْهِ المضاهاةِ لَهُ وَالمشابَهَةِ لِفِعْلِهِ، قالَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يخلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذُبابَةً وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً ولْيَخْلَقُوا حَبَّةً.
فَالذُّبابُ مِنْ أَحْقَرِ الحيوانِ، مَعَ هَذا يَعْجَزُ عَنْ خَلْقِ الذُّبابِ كُلُّ مَعْبودٍ منْ دُونِ اللهِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا﴾[الحج: 73] هَذا التَّحَدِّي الثالثُ.
التَّحَدِّي الأَوَّلُ في الخَلْقِ وَالإيجادِ كُلُّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَعْبدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُوجِدُوا خَلْقا لِذُبابِ،ثُمَّ أَنَّهُمْ يَعْجَزُونَ عَنِ الدَّفْعِ عَنِ الامْتِناعِ مِنْ أَذَى الذُّبابِ وَإِنْ يَسْلُبُهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا، إِنْ يَأْخُذِ الذُّبابُ مِنْهُمْ شَيْئًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا مِنْ طَعامِهِمْ، مِنْ لِباسِهِمْ، مِنْ أَبْدانِهِمْ وَأَبْشارِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ سَواءٌ ﴿وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ﴾[الحج: 73] يَعْجَزُونَ عَنْ أَنْ يَسْتَرْجِعُوهُ، يَعْجَزُونَ عَنْ أَنْ يَسْتَرِّدُوهُ، فَهُمْ في ضَعْفٍ لا يَتَمَكَّنُونَ مَعَهُ مِنَ اسْتِرْجاعِ ما أَخَذَهُ مِنْهُمُ الذُّبابُ، هَذا الذُّبابُ الَّذِي هُوَ مَضْرِبُ المثَلِ في الحقارَةِ يَعْجُزُ هَؤُلاءِ عَنْ إِيجادِهِ وَخَلْقِهِ، كَما يَعْجَزُونَ عَنِ الامْتِناعِ مِنْهُ، كَما يَعْجَزُونَ عَنِ الانْتِصارِ مِنْهُ إِذا أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا.
لذلكَ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ العَجْزَ المطبِقَ لِكُلِّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ، لِكُلِّ مِنْ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، لِكُلِّ مَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ سَواءٌ كانَ مَلِكًا، كانَ رَسُولًا، نَبِيًّا، كانَ صالِحًا، كانَ حَيًّا، كانَ مَيِّتًا، جَمادًا، كانَ حاضِرًا، كانَ غائِبًا، كانَ عاقِلًا، غَيْرُ عاقِلٍ، كُلُّ هَؤُلاءِ يَعْجَزُونَ عَنْ هَذا كُلِّهِ، يَعْجَزُونَ عَنِ الخَلْقِ فاللهُ هُوَ الخَلْقُ ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾[الطور: 35]، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾[الأنعام: 1] يُسَوُّونَ غَيْرَ اللهِ بِاللهِ، تَعالَى اللهُ عمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا –سُبحانَهُ وَبِحَمْدِهِ-، كَما أَنَّهُمْ يَعْجَزُونَ عَنِ امْتِناعٍ عَنْ أَذَى هَذا المخْلُوقِ الحَقِيرِ، أَيْضًا يَعْجَزُونَ عَنِ الانْتِصارِ مِنْ هَذا المخْلُوقِ إِذا أَذاهُمْ وَأَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا.
وَلِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحج: 73]، كُلُّهُمْ ضُعفاءُ المعبودُ مِنْ دُونِ اللهِ ضَعِيفٌ، وَالعابِدُ لِغَيْرِ اللهِ ضَعِيفٌ، وَهَذا الذُّبابُ الَّذِي أَذاقَهُمُ الذُّلَّ بِعَجْزِهِمْ عَنْ خَلْقِهِ وَعَنِ الامْتِناعِ مِنْ أَذاهُ وَعَنْ الانْتِصارِ مِنْهُ أَيْضًا ضَعِيفٌ ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾[الحج: 73] بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ اللهُ -جَلَّ في عُلاهُ- في بَيانِ ما وَقَعَ فِيهِ المشْرِكُونَ مِنْ نَقْصِ تَعْظِيمِ رَبِّ العالمينَ حَيْثُ سوَّوْا غَيْرَهُ بِهِ ﴿مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾[الحج: 74] ما عَظَّمُوا اللهَ حَقَّ تَعْظِيمِهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[الحج: 74] فَسُبْحانَ مَنْ لا يَقْدُرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ وَمْنَ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدُ جَلَّ في عُلاهُ –سُبحانهُ وَبحمْدِهِ-.
إنهُ لمنَ المهمِّ أَنْ نَعِيَ هَذا المثَلَ، لأَنَّ هَذا المثلَ يُبْطِلُ عِبادَةَ كُلِّ مَنْ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ، هَذا المثلُ يُبَيِّنُ لَكَ صِدْقَ تِلْكَ الكَلِمَةِ، "لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" الَّتي نُرَدِّدُها صَباحَ مَساءَ، إِنَّ مَعْناها لا مَعْبُودَ حَقَّا إِلَّا اللهُ، كُلُّ ما يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ فَهُوَ باطِلٌ، كُلُّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِ اللهِ فَهُوَ باطِلٌ وَزُورٌ، إِنَّما الإِلَهُ هُوَ اللهُ كَذَلِكُمْ اللُه رَبُّكُمْ الحقُّ، فَماذا بَعْدَ الحقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟
هَذا المثلُ شَرِيفٌ عَظِيمُ المقامِ كَبِيرُ النَّفْعِ لمنْ تَدَبَّرَهُ وَاعْتَبَرَ بِهِ، إِنَّ أَكْثَرَ البَشَرِيَّةِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَتعاقُبِ الدُّهُورِ وَاخْتِلافِ الأَزْمانِ يِعبْدُونَ غَيْرَ اللهِ، لإِضْلالِ الشَّيْطانِ الَّذِي جاءَ وَأَخْرَجَهُمْ عَنْ هَذا الصِّراطِ المسْتَقِيمِ، فَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ في صَحِيحِ الإِمامِ مُسْلِمٍ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: «خَلَقْتُ عِبادِي» حُنَفاءَ يَعْنِي: عَلَى الصِّراطِ المسْتَقِيمِ بِالتَّوْحِيدِ وَالفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ «فاجْتالَتْهُمُ الشَّياطينُ»[صحيح مسلم:(2865)] أي: أخرجتهم عن هذا الصراط المستقيم.
إننا نحتاج أيها الإخوة والأخوات إلى أن نعرف أن أعظم حقيقة في الكون تضمنتها هذه الكلمة المختصرة "لا إله إلا الله" قررها هذا المثل العظيم ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾[الحج: 73].
اللهمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا وَقِنا شَرَّ أَنْفُسِنا، إِلَى أَنَّ نَلْقاكُمْ في حَلْقَةٍ قادِمَةٍ، أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لا تَضِيعُ وَدائِعُهُ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ.