الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حمدهِ، لهُ الحمدُ كُلُّه أوَّلُهُ وآخِرُهُ، ظاهِرُهُ وَباطِنُهُ، لَهُ المحامِدُ كُلُّها، لا نُحْصِي ثَناء عليهِ، هُوَ كَما أثْنَي عَلَى نفسهِ.
وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ إِلَهُ الأولينَ والآخرينَ، لا إلهَ إلَّا هُوَ الرحمنُ الرحيمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسُولُهُ صَفِيُّهُ وخليلُهُ، خِيرتُهُ مِنْ خلقهِ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مجيدٌ،أَمَّا بَعْدُ ..
فَحياكُمُ اللهِ أَيُّها الإِخْوَةُ والأَخواتُ وَأَهْلًا وَسَهْلًا بِكُمْ في هَذِهِ الحلَقْةِ ..
اللهُ تَعالَى أنزلَ هَذا الكِتابَ المبينَ، وَهَذا الدينَ العَظِيمَ، وهَذا النورَ الكبيرَ الَّذي أخرجَ بهِ النَّاسَ مِنَ الظلماتِ إلَى النورِ، هَداهُمْ بِهِ مِنَ العَمَى، بَصَّرهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلالَةِ، أَرْشَدَهُمْ إِلَى ما فِيهِ سَعادَةُ دِينهِمْ وَدُنْياهُمْ، هَذا الكِتابُ العَظِيمُ نُوُرٌ يُشْرِقُ بِهِ قَلْبُ العبدِ، نُورٌ تستقيمُ بِهِ أُمُورُهُ، نُورٌ تَصْلَحُ بِهِ أَحْوالُهُ.
يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء: 9]، وَلِذَلِكَ كانَ أَهْلُ القُرْآنِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخاصَّتُهُ في الذُّرْوَةِ مِنَ المكانَةِ والمنزلَةِ إِنَّهُمْ عَلَّمُوا هَذا الكِتابَ، لَكِنَّهُمْ لم يَقْتَصِرُوا عَلَى عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، بَلْ أَضافُوا إِلَى ذَلِكَ ما فِيهِ النَّجاةُ وَهُوَ العَمَلُ.
اللهُ تَعالَى ذَكَر في سُورَةِ الفاتِحَةِ أَعْظَمُ المطالِبِ، أَعْظَمُ الأَسْئِلَةِ، أَعْظَمُ الأَدْعِيَةِ؛إِنَّهُ سُؤالُ اللهِ الهدايَةِ، اسْتَمِعْ إِلَى هَذِهِ الآياتُ الَّتي يُكَرِّرُها كُلُّ مُؤْمِنٍ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الفاتحة: 6]، وَهَذا طَلَبَ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَهْدِيَهُ اللهُ تَعالَى الطَّرِيقَ المسْتَقِيمَ، بِأَنْ يُبَيِّنَهُ لَهُ، وَأَنْ يُوَضِّحَهُ لَهُ، إِضافَةً إِلَى البَيانِ وَالِإيضاحِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى سُلُوكِهِ، أَنْ يُعِينَهُ عَلَى السَّيْرِ فِيهِ، فالهِدايَةُ المسئُولَةُ هُنا لَيْسَتْ فَقَطْ هِدايَةُ الدِّلالَةِ وَالمعْرفِةِ وَالإِرْشادِ وَالعِلْمِ، بَلْ هِدايَةُ العَمَلِ بِالعَمَلِ، هِدايَةٌ العَمَلِ بِالتَّوْفِيقِ وَبِما جاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ المباركَةُ.
وَهَذِهِ هِدايَةٌ عُظْمَى هِيَ الَّتي يَتَمايَزُ بِها النَّاسُ بَعْدَ الهِدايَةِ الأُولَى الَّتي تَتَبَيَّنُ بِها السُّبُلُ، وَتَتَّضِحُ بِها المعالمُ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾[الفاتحة: 6- 7] مَنْ هُمُ المغْضُوبُ عَليهِمْ؟ إِنَّهُمْ الَّذِينَ عَلِمُوا وَلمْ يَعْمَلُوا، عَلِمُوا وَعَرَفُوا الطّريقَ الموصِلَ إِلَى اللهِ، عَرَفُوا طريقَ الهدايَةِ لكنهمْ قَعَدُوا عن سلوكهِ، عَرفُوا كيفَ يصِلُونَ إِلَى السَّعادَةِ، لَكِنهُمْ لمْ يتحركُوا لِيَصِلُوا إِلَيْها، أَمَّا القِسْمُ الثَّاني فَهُمُ المغْضُوبِ عَلَيهمْ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾[الفاتحة: 6- 7]، الذينَ لم يَعْمَلُوا بِالعِلْمِ، وَلا الضَّالِّينَ الذينَ عَمِلُوا بِلا عِلْمٍ.
العلمُ نورٌ، العلمُ هِدَايةٌ، العلمُ توفِيقٌ، لَكِنَّ العلْمَ عِلْمانِ؛ علمٌ يَنْفَعُ، وَعِلْمٌ لا ينفعُ.
العِلمُ الَّذي مِنَ العلمِ الَّذي لا يَنْفَعُ هُوَ الَّذِي لا يَعْمَلُ بِهِ صاحبُهُ، ولذَلِكَ ضَرَب اللهُ تَعالَى في كِتابِهِ مَثَلا لأُولَئِكَ الَّذِينَ عَلِمُوا ولمْ يَعْمَلُوا فقالَ في مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[الجمعة: 5]، هَذِهِ الآيةُ المباركَةِ مَثَّل اللهُ تَعالَى فِيها حالُ قَوْمٍ حَمَلُوا كِتابَ اللهِ تَعالَى، علِمُوا قَوْلَهُ –جَلَّ وَعَلا-، عَلِمُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ﴾[الجمعة: 5] والتوراةُ أشرفُ الكُتُبِ الَّتي أَنْزَلَها اللهُ تَعالَى علَى النَّبِيينَ بَعْدَ القُرْآنِ العظيمِ، إِنَّه كِتابٌ كتبهُ اللهُ تَعالَى بِيَدِهِ أَنْزَلَهُ عَلَى مُوسَىَ عليهِ السَّلامُ.
﴿الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾[الجمعة: 5]، أَيْ أَنَّهُمْ عَرَفُوا التوراةَ واطلعُوا عَلَى ما فِيها، وَقَدْ يَكُونُ حفِظُوا مَضْمُونَها لَكِنَّهُمْ لم يَعْمَلُوا بِما فِيها ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾[الجمعة: 5]، أيْ: لمْ يَحْمِلُوها عِلْمًا وَعَمَلًا وَمُمارَسَةً وَتَطْبيقًا وَتَنْفِيذًا في واقِعِ الحياةِ، هَؤُلاءِ يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾[الجمعة: 5]، وَهَذا لَيْسَ فَقَطْ لمنْ حَمَلُوا التَّوراةَ وَأَعْرَضُوا عَنِ العَمَلِ بِها، بَلْ كُلُّ مَنْ عَلَّمَ عَلمًا فإِنَّهُ إِذا أَعْرَضَ عَنْهُ كانَ كَما وَصَفَ اللهُ تَعالَى في هَؤُلاءِ الَّذِينَ عَرَفُوا ما في التَّوراةِ ما جاءَ بِهِ مُوسَى -u- وَلم يَعْمَلُوا بِهِ.
وَلِذلكَ قالَ النبيُّ –صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- كَما في الصحيحِ: «القُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أَمْ عَلَيْكَ»[صحيحُ مُسْلِمٍ (223)]، حُجةٌ لَكَ إِذا عملْتَ بِهِ، وَأَخَذْتَ بهدْيِهِ، وَمارَسْتَ ما أَمَرَكَ اللهُ تَعالَى بِهِ امْتِثالًا، وَاجْتَنَبْتَ ما نَهاكَ عَنْهُ تركًا وَإِعْراضًا عَمَّا يُغْضِبُ اللهَ تَعالَى.
القرآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَليكَ، لهذا ليسَ ذَلِكَ المثلُ في هذِهِ السُّورَةُ مَقْصُورةٌ عَلَى التَّوراةِ وَعَلَى أَهْلِها وَعَلَى الَّذينَ حَمَلُوها، بَلْ هَذا في حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ يَعْلَمُ عِلْمًا، يُعَلِّمُ هِدايَةً ثُمَّ لا يَعْمَلُ بِها، ثُمَّ لا يَنْقُلُها مِنْ حَيَّزِ المعرِفَةِ إِلَى حَيَّزِ الممارَسَةِ والعَمَلِ.
يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾[الجُمْعة: 5]، الحمارُ تُوضَعُ عَلَيْهِ الكُتُبُ وَيَنْقُلُها مِنْ مَكانٍ إِلَى مَكانٍ وَهِيَ مِنْ أَنْفَسِ ما يَكُونُ مَعْرِفَةً وَدِلالَةً، لَكِنَّهُ لا يُدْرِكُ مِنْها شَيْئًا، لَيْسَ لَهُ منْ فائِدَةِ ذَلِكَ العَلَمِ إِلَّا ثِقَلُ الحمْلِ، لَيْسَ لهُ فائِدَةٌ مِنْ هَذِهِ الكُتُبِ الَّتي عَلَى ظَهْرِهِ، إِلَّا ثِقَلُ الحمْلِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْ هَذِهِ الأَسْفارِ وَهَذِهِ الكُتُبِ الَّتي يَنْقِلُها، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾[الجمعة: 5]، كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ، أَيْ: دِلالاتِهِ الَّتي أَعْطاهُمْ إِيَّاها، وَيَسَّرها لهمْ في هذا الكتابِ وَفي هَذا العِلْمِ الَّذي علَمُوهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لمْ يَعمَلُوا بهِ، وَلمَا لمْ يَعْمَلُوا بِهِ كانُوا كالمكَذِّبِينَ، وَلِذلكَ قالَ: ﴿بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾[الجمعة: 5]، ثُمَّ يُبَيِّنُ اللهُ تَعالَى حِرْمانَ هَؤُلاءِ مِنَ الهِدايَةِ لأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَمَّا جاءَتْ بِهِ الرسلُ، أعرضُوا عَمَّا اطَّلَعُوا عَلَيْهِ مِنْ دِلالاتِ الكتابِ المبينِ، وما جاءَتْ بِهِ الرسلُ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ علَيْهِمْ، فَيَقُولُ: ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[الجمعة: 5]، ظلَمُوا أَنفسهُمْ بِتركهِمُ العَمَلَ بِالعِلْمِ، ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعدَمِ قِيامِهمْ بِما أُمِرُوا بِهِ وَما نُهُوا عَنْهُ.
وَالعَبْدُ يَوْمَ القِيامَةِ لا تَزُولُ قَدَماهُ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبِع، مِنْها: عَنْ عِلْمِهِ فِيماش عملِ بِهِ، إِنَّ العِلْمَ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تعالَى، حَقَّ هَذِهِ النعمَةِ أَنْ يَعْمَلَ بِها الإِنْسانُ، وأَنْ يُتَرْجِمَها واقِعًا في حَياتِهِ، وَإِذا تَرْجَمَها واقِعًا في حَياتِهِ كانَتْ سَبَبًا لمزيدِ عَطاءٍ، لمزيدِ نُورٍ، لمزيدِ هِدايَةٍ.
لِذَلِكَ كانَ النَّبيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعْ «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعْ»[صَحِيحُ مُسْلِمٍ (2722)]، أَيُّ عِلْمٍ لا يُتَرْجَمُ عِلْمٌ لا يُنَفَّذُ، أَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى صاحِبِهِ، وَلهذا يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ رَجُلٌ «فَتَنْدَلِقُ أَقْتابُهُ» أَيْ: أَمْعاؤُهُ، «يَدُورُ بِها في النَّارِ كَما يَدُورُ الحِمارُ بِرَحاهُ» وَانْظُرْ حَيْثُ قالَ الحِمارُ؛ لأَنَّ الحَمارَ هُوَ المضْرُوبُ مَثَلاً في حَمْلِ العِلْمِ، هَذا كالحِمارِ الَّذي حَمَلَ عِلْمًا وَلمْ يَعْمَلْ بِهِ وَلمْ يَعْلَمْ ما فِيهِ يَقُولُ النبيُّ –صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَيَأْتيهِ أَهْلُ النارِ ما شَأْنَكَ يا فُلانُ كُنْتَ تَأْمُرُنا بِالمعْرُوفِ وَتَنْهانا عَنِ المنْكَرِ ما الَّذي جاءَكَ إِلَى هُنا ما الَّذي أَوْقَعَكَ هَذا الموْقِعَ فَيَقُولُ: «كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالمعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وأَنْهاكُمْ عَنِ المنْكَرِ وَآتِيهِ»[صَحِيحُ البُخارِيِّ (3267)، ومسْلِمٌ (2989)]، هَذا هُوَ المثَلُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعالَى ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[الجمعة: 5]
اللَّهُمَّ اهْدِنا فِيمَنْ هَديْتَ، مَنَّ عَلَيْنا يا رَبَّنا بِالهِدايَةِ في القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَوْلِيائِكَ وَحِزْبِكَ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ.