الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، وأُصلِّي وأسلِّمُ عَلَى السراجِ المنيرِ نبيِّنا محمدٍ وعلَى آلِه وأصحابِه أجمَعينَ، أما بعدُ:
فزيارةُ مسجدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ- مِنَ القرباتِ، ومِنَ الطاعاتِ التي شرعَها رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ لأمتِه، جاءَ ذلكَ في "الصحيحَيْنِ" مِن حديثِ أبي هُريرَةَ وأبي سعيدٍ -رضيَ اللهُ عنهُما- حيثُ قالَ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ:«لا تشَدُّ الرحالُ إلَّا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحرامِ ومسجِدي هَذا والمسجدِ الأقصَى»، أسألُ اللهَ أنْ يعجلَ بفرجِه وأنْ يرفعَ عنهُ احتلالَ الغاصِبينَ.
المسجدُ الحرامُ والمسجدُ النبويُّ، والمسجدُ الأقصَى، هيَ مِنَ البقاعِ التي تشَدُّ إليها الرحالُ، فليسَ في الدنيا بقعةٌ يشَدُّ الرحالُ لقصدِها طاعةً للهِ إلَّا هذهِ البقاعُ الثلاثُ.
أمَّا مكةُ فشدُّ الرحالِ إليها فرضٌ علَى الناسِ كافةً، قالَ اللهُ تعالَى:﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾أي: قصدُه، ﴿ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾آل عمران:97
وأما مسجدُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلمَ، والمسجدُ الأقصَى: فشدُّ الرحالِ إليهِما مِنَ السننِ وليسَ واجبًا، ومنهُ نفهمُ أنهُ لا ارتباطَ بينَ مناسكِ الحجِّ والعمرةِ وبينَ زيارةِ مسجدِ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَليهِ وسلمَ والمسجدِ الأقصَى؛ بلْ هَذا عملٌ منفصلٌ عَنْ هذا، فهوَ يكونُ في كلِّ السنةِ، وأما الحجُّ فيكونُ في وقتٍ محددٍ، والعمرةُ تكونُ في كلِّ السنةِ، وقصدُ المسجدِ الأقصَى في كلِّ السنةِ، فإنهُ لا يحَدُّ بحدٍّ لا في أشهرِ الحجِّ ولا في غيرِها.
لكِنْ جرَى عملُ كثيرٍ مِنَ العلماءِ عَلَى ذكرِ "آدابِ زيارةِ المسجدِ النبويِّ"؛ وكذلكَ "آدابُ زيارةِ المسجدِ الأقصَى" في ثَنايا ذكرِهم لأحكامِ المناسكِ؛ لأنَّ العلماءَ يجمَعونَ المتشابهاتِ.
والجامعُ بينَ هذهِ الأمورِ الثلاثةِ: أنها بقاعٌ يشرَعُ قصدُها، ويشَدُّ الرحالُ إليها، عَلَى اختلافٍ في مرتبةِ هَذا كما ذكرتُ فيما يتعلقُ بقصدِ مكةَ والحجِّ إلى البيتِ الحرامِ؛ فرضٌ عَلَى الناسِ، وأما قصدُ المدينةِ لزيارةِ مسجدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، وقصدُ المسجدِ الأقصَى إنما هوَ علَى وجهِ الاستحبابِ والسُّنيةِ؛ وليسَ عَلَى وجهِ الفرضِ ولا الوجوبِ.
إذًا: ليسَ هناكَ ارتباطٌ بينَ الحجِّ وبينَ المناسِك، وما جاءَ مِن أحاديثَ يذكرُها البعضُ: «مَنْ حجَّ فلم يزُرْني فقدْ جَفاني»، فهَذا لا يثبتُ، بلْ هذهِ أحاديثُ موضوعةٌ وضعَها الجهَّالُ والكذابونَ علَى رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، وليسَ فيها شيءٌ مِنَ الصحةِ، ولا الثبوتِ، وقدْ حجَّ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلمَ- في السنةِ العاشرةِ، وحجَّ معَه مِنْ أطرافِ الدنيا الذين أسلَموا ما يزيدُ علَى مائةِ ألفٍ، لم يكونوا قدْ جاؤوا كلُّهم مِنَ المدينةِ، بلْ منهُم مَن جاءَ مِنَ المدينةِ معَه، وجاءَ جمعٌ غفيرٌ أيضًا مِنْ جهاتٍ أُخرَى، فقدِ انتشرَ الإسلامُ، جاءَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- مِنَ اليمنِ ومعَه مَنْ معَه مِن أهلِ اليمنِ، هوَ وأبو موسَى الأشعريِّ، وجاءَ مَن جاءَ مِن جهةِ طيفٍ وسائرِ بقاعِ الدنيا، جاءُوا إلى النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الجهاتِ التي انتشرَ فيها الإسلامُ؛ ولم يقلِ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لواحدٍ مِن هؤلاءِ:" إذا فرغتُم مِن مناسكِكم فزوروا مسجِدي في المدينةِ"، لم يقلْ ذلكَ، ولم ينقُلْ عنهُ أحدٌ حرفًا واحدًا في ذلكَ.
فدلَّ ذلكَ علَى أنهُ لا صلةَ لزيارةِ المسجدِ النبويِّ ولا المسجدِ الأقصَى بمناسِك الحجِّ والعمرةِ؛ لكنَّ العلماءَ يذكرونَ هَذا مثلَ ما ذكرتُ لهذا السببِ، وأيضًا لأنَّ الذينَ يقصِدونَ مكةَ يسهلُ علَيهمُ المجيءُ إلى المدينةِ، حتى في الأزمانِ السابقةِ قبلَ هذهِ الترتيباتِ التي علَيها الناسُ في دوَلِهمُ الآنَ؛ في الأزمنةِ السابقةِ كانَ المجيءُ إلى مكةَ يسهلُ معَه الوصولِ إلى المدينةِ وبالتالي يذكُرون زيارةَ مسجدِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذًا: خلاصةُ الجوابِ أنهُ لا صلةَ بينَ زيارةِ مسجدِ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبينَ مناسِك الحجِّ، بلْ هوَ طاعةٌ وعبادةٌ مستقلةٌ عَنِ الحجِّ تكونُ في السنةِ كلِّها متى ما تيسرَ للإنسانِ.