المقدمُ: مُشاهدينا الكرامَ، الحديثُ سيكونُ موجَّهًا كالعادةِ لكُم أنتم، الحديثُ سيكونُ موجهًا مِن شيخِنا لكلِّ أُمٍّ، لكلِّ أبٍ، لكلِّ خطيبٍ لكلِّ مُربٍّ لكلِّ مسئولٍ، نحنُ جميعًا نشتركُ في المسئوليةِ إذا كانَ الحديثُ عَن أبنائِنا إذا كانَ الحديثُ عنِ الشبابِ.
نريدُ صاحبَ الفضيلةِ ـ يعني ـ الحديثَ سيكونُ عنْ شريحةٍ كبيرةٍ هي شريحةُ الشبابِ، كثيرٌ مِن أبنائِنا ـ يا شيخُ ـ يشتكونَ مِن وجودِ فجوةٍ كبيرةٍ بينَهم وبينَ والِديهم بينَهم وبينَ المُرَبينَ، بينَ المعلمينَ، نريدُ ـ يا شيخ ـ أن نردمَ هذه الفجوةَ.. يعني للأسفِ بسببِ هذه الفجوةِ صاروا لقمةً سائغةً ـ يا شيخُ ـ بأيدي أعدائِنا فللأسفِ انزَلَقوا في مُنزلقاتٍ خطيرةٍ وأصبَحوا في مناطقِ الصراعِ، والأمرُ لا يَخفى يا شيخُ ما توجهُيكم حَفِظَكمُ اللهُ؟
الشيخُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين وأُصلِّي وأُسلِّمُ على نبيِّنا محمدٍ وعَلَى آلِه وأصحابِه أجمعينَ، أما بعدُ.
القضيةُ التي أشرْتَ إلَيها وهي قضيةٌ تشغلُ كلَّ ذي قلبٍ حيٍّ مِنَ الوالِدَينِ، بلْ مِن أصحابِ التوجيهِ والتأثيرِ في المجتمعِ وذلكَ أنَّ النشءَ هو عمادُ المستقبلِ، شبابُ اليومِ هم قادةُ الغدِ، هم رجالُ المستقبلِ، وبالتالي حُسنُ النظرِ في تربيَتِهم وحسنُ النظرِ في رعايتِهم والقيامِ علَيهم، كما يَنبغي يُؤثِّرُ في خاصةِ شأنِهم وفي مجموعِ شأنِ الأمةِ، وبالتالي المسئوليةُ عظيمةٌ وقدْ بيَّنَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - خطورةَ المسئوليةِ في عمومِ الولاياتِ فقالَ: «كلُّكم راعٍ وَكلُّكم مسئولٌ عَنْ رعيَّتِهِ»صحيح البخاري (893)، وصحيح مسلم (1829) وقدْ أمرَ اللهُ ـ تعالى ـ بأداءِ الأماناتِ فقالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾[النساء: 58] والأمانةُ هُنا تشملُ كلَّ ما أوجَبَه اللهُ ـ تعالى ـ على الإنسانِ مِن حقوقِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ومِن حقوقِ الخلقِ ومِن ألزمِ ما يكونُ مِن الحقوقِ حقوقُ الذريةِ الذينَ هم فرعٌ مِنك وولاياتُك عَلَيهم أوثقُ الولاياتِ مِن حيثُ التوجيهُ والتربيةُ والقربُ والتأثيرُ.
ولهذا يَنبغي أنْ يُعرَفَ أثرُ هذه الولايةِ؛ ولذلكَ التفريطُ فيها ينعكسُ بالتأكيدِ على النشءِ، وقدْ جاءَ في الصحيحَينِ مِن حديثِ أبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ ـ أنَّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قالَ: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفِطرةِ»صحيح البخاري (1385)، وصحيح مسلم (2658) وهذا يبيِّنُ أنَّ هُناك إعانةً سابقةً مِنَ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ في استقامةِ الولدِ وفي استقامةِ النشءِ وهو ما كانَ في الفِطَرِ التي فطرَ اللهُ ـ تعالى ـ الناسَ عَلَيها لا تبديلَ لخلقِ اللهِ.
هذه الفطرةُ هي قاعدةٌ يُبنَى علَيها، وهي أساسُ تربةٍ خصبةٍ للبناءِ، فإذا كانتْ باقيةً على أصلِها نقيةً أثمرَتْ ثمارًا طيبةً إذا سُقيَتْ بالتوجيهِ الحسَنِ ورُعيَتْ بالرعايةِ الطيبةِ التي تُفضي إلى طيبِ الثمارِ وجميلِ النتاجِ إذا غفلَ عَنها، فسيكونُ الأمرُ على خلافِ ذلك تنحرفُ الفطرةُ، وينحرفُ ما بعدَ ذلكَ مِن نتاجٍ وثمارٍ، وقدْ قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: «فأبواهُ» وهذه مسئوليةٌ رئيسةٌ تبيَّنَ حجمَ تأثيرِ الأبوَيْنِ في مسلكِ الولدِ «فأبواهُ يُهوِّدانِه ويُنصِّرانِه ويُمجِّسانِه»صحيح البخاري (1385)، وصحيح مسلم (2658).
المقدمُ: يعني ليسَتِ المسئوليةُ على أحدِهما دونَ الآخرِ.
الشيخُ: أبدًا، هي مسئوليةٌ مشتركةٌ، وبالتالي تَخلِّي بعضِ الأمهاتِ عَن رعايةِ أولادِهم، تخلِّي بعضِ الآباءِ عَن مَسئوليةِ أبنائِهم وتقاذُفُ المسئوليةِ بمعنَى أنَّ الأمَّ تقذفُ المسئوليةَ على الأمِّ، والأبُ يقذفُ المسئوليةَ على الأمِّ؛ اللامبالاةُ مِنَ الأطرافِ كلِّها في بعضِ الأحوالِ، الغفلةُ وإيكالُ الأمورِ إلى مَن ليسَ أهلًا لطيبِ نَشءٍ ولا لطيبِ ثمارٍ، كالذي يكلُ أمرَ رعايةِ أولادِه لعاملاتٍ، عاملاتٍ لا ثقافةً، لا خلفيةً، لا ديانةً، لا لغةً، لا استقامةً، يَعني هُنَّ جئنَ ليكتسِبْنَ رزقًا على موروثٍ ضعيفٍ وفكرٍ معلومٍ يعني لا نتنقصُ أحدًا؛ لكنْ معلومٌ أنَّ الذين يستقدِمونَ للخدمةِ في البيوتِ هم مِنَ الطبقاتِ في مجتمعاتٍ مِنَ الطبقاتِ التي حدُّها ظرفُها الفكريُّ والماديُّ والاجتماعيُّ إلى أنْ تقبلَ بمثلِ هذا العملِ، وبالتالي هؤلاء ليسوا أهلًا أنْ يُربوا نشءَ أبنائِنا وبناتِنا، وأنْ يكونوا رعاةً لجيلٍ نَصْبُوا أنْ يكونَ رائدًا، نَصْبوا أن يكونَ قائدًا، ونصبوا أنْ يكونَ مُصلحًا، ونصبوَ أنْ يكونَ محققًا لنجاحٍ فرديٍّ قبلَ أنْ يكونَ نجاحًا جماعيًّا إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، فالإدراكُ لخطورةِ المسألةِ في هذا التضييعِ وهذا التقاذفِ للمسئوليةِ وهذه الاتكاليةِ التي نشاهدُها مِن كثيٍر مِنَ الأُسَرِ تنبِئُ بأننا مُقبلونَ على مشكلاتٍ إذا لم نستبِقْها بمعالجاتٍ صحيحةٍ واستدراكاتٍ سليمةٍ، فإننا سنتجرعُ حنظلًا وندركُ شرًّا نسألُ اللهَ أنْ يدفعَه عنا وعَنِ المسلمينَ.
لذلكَ مِنَ المهمِّ أنْ نستشعرَ مسئوليةً.. يعني أنتَ إذا نظرتَ إلى الأنبياءِ صفوةِ اللهِ في خلقِه مِنَ المرسلينَ والنبيينَ وجدْتَ أنَّ همَّ الولدِ وطيبَه وصلاحَه همٌّ مقدمٌ على مجيئِه، ولذلكَ إبراهيمُ ـ عليهِ السلامُ ـ يقولُ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾[آل عمران: 38] وزكريا يقولُ: ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾[الأنبياء: 89] فيسألُ اللهُ ـ تعالى ـ أن يرزُقَه وارِثًا يرِثُه بخيرٍ وما إلى ذلكَ مِنَ الأدعيةِ الكثيرةِ التي حفظَتْها النصوصُ في الكتابِ والسنةِ لصلاحِ الأولادِ قبلَ مجيئِهم، ثُم إذا جاءوا اهتمَّ لهم أبوهم، فهذا خليلُ الرحمنِ يقولُ: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾[إبراهيم: 35]، ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ﴾[إبراهيم: 40] هذا الهمُّ في أن يقيَ أولادَه السوءَ بالضراعةِ إلى اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ وأنْ يُعانوا على الخيرِ بدعاءِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ وإقامةِ الصلاةِ التي إذا قامَتْ قامَ كلُّ شيءٍ بعدَها على وجْهٍ حسَنٍ، بالتأكيدِ يبينُ لنا أن الموضوعَ ليسَ أمرًا هامِشيًّا، أمرٌ يشغلُ خليلَ الرحمنِ لا شكَّ أنهُ أمرٌ ذو بالٍ وأنه أمرٌ خطيرٌ وأنه أمرٌ يحتاجُ إلى أنْ نلتفتَ إليهِ.
أنا أدعو نَفسي وإخواني إلى أنْ نبذُلَ قُصارَى جهدِنا، أعرفُ أنَّ المدنيةَ الحديثةَ أثَّرتْ والأجهزةَ المعاصرةَ كانَ لها تأثيرٌ كبيرٌ في وجودِ فجوةٍ وتباعدٍ بينَ الأبناءِ والبناتِ والأهلِ، مما جعلَ كثيرٌ مِنَ الأولادِ ذكورًا وإناثًا يشعرُ بوَحدةٍ وعزلةٍ عَن محيطٍه، فهو يصبحُ ويُمسي على هذه الأجهزةِ وعلى خدَمٍ يقومونَ بشأنِه أو حتى على أصحابٍ ولو لم يكُن خدمٌ على هذهِ الأجهزةِ وما فيها مِن تواصلٍ همُ الذينَ يُوجِّهونَه، همُ الذين يُعطونَه الأفكارَ هم الذينَ يُصيغونَ شخصيتَه، وبالتالي نشاهدُ هذه الخروجاتِ التي أصبحَتْ ملموسةً ومشاهدةً سواءٌ ذاتَ اليمينِ أو ذاتِ الشمالِ بالانحرافِ عَنِ الطريقِ القويمِ بعدَ هذا الانحرافِ يأتي الوالِدانِ يَعَضانِ أصابعَ الندمِ؛ لكن لا ينفعُ في هذا المقامِ ندمٌ، بل يَنبغي أنْ نستدركَ الخطأَ والخطرَ، ولاحظِ البذلَ العظيمَ الذي كانَ يبذلُه الأنبياءِ في تقويمِ أولادِهم.
نوحٌ ـ علَيهِ السلامُ ـ نموذجٌ لذلكَ حيثُ كانَ ـ علَيهِ الصلاةُ والسلامُ ـ يأمرُ ولدَه في اللحظةِ الأخيرةِ في آخرِ لحظاتِ إمكانِ الاستدراكِ يقولُ: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾[هود: 42-43] سبقَ ما قدَّرَه اللهُ ـ تعالى ـ فلَم ينفعِ النصحَ، لكنِ انظرْ إلى هذا الحرصِ الشديدِ على الولدِ في أنْ يستنقذَه رغمَ ظهورِ الآياتِ وظهورِ العبرِ وانقطاعِ الحججِ إلَّا أنهُ معَ هذا لم يمتنعْ مِن وصيةِ ولدِه، واللهُ ـ تعالى ـ يقولُ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾[طه: 132] ويقولُ ـ تعالَى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[التحريم: 6].
لذلكَ أدعُو نَفسي وإخواني إلى أنْ نُفعِّلَ هذا في سلوكِنا يا أخي في دعائِك، في اهتمامِك، في قُربِك، يفتحُ الجسورَ معَ أبنائكَ وبناتِك، الأمُّ معَ بناتِها والأبُ مع بناتِه وأولادِه والأمُّ معَ أبنائِها وبناتِها نفتحُ الجسورَ يعني ماذا نُبقي على هذا النوعِ مِنَ الانشغالِ أو هذا النوعِ مِنَ الحوائلِ أو هذا النوعِ مِنَ الاتِّكاليةِ ونظنُّ أنهُ فقطِ المطلوبُ مِنَ الوالِدينِ هو فقطِ الكفايةُ في المأكلِ إذا بغوا أكلًا أتَى لهم، إذا بغوا ملبسًا جاب لهم إذا بغوا سفرًا حقَّقَه لهم ثم ترَكَ أرواحَهم خاويةً مِنَ احتواءٍ، خاويةً مِن توجيهٍ، يعني: الدلعُ الزائدُ هو نظيرُ الإهمالِ الزائدِ والتقصيرِ الزائدِ، فكلاهُما سوءاتُه بينةٌ ملموسةٌ في حياةِ الناسِ، إنما المطلوبُ أنْ يكونَ الإنسانُ وسَطًا بينَ توفيرِ المتطلباتِ وبينَ منعِ ما يكونُ مِنَ المضراتِ، وألا نقدمَ لهم ما يُهلِكُهم.
وأقولُ كلمةً ادعو نفسي وكلَّ مَن يسمعُني مَن له ولايةٌ مِن أبٍ أو أمٍّ أو أخٍ أو أختٍ كُبرى أنْ نعيَ حجمَ الأمرِ، تأملْ هذه العبارةَ التي يقولُ فيها ابنُ القيمِ: وبالتأملِ فإنَّ غالبَ فسادِ وشقاءِ الأولادِ مِن آبائِهم. يعني: غالبَ ما يعاينُ مِنَ الفسادِ والانحرافِ في الأولادِ ذكورًا وإناثًا بسببِ الآباءِ.
ولهذا استَدركوا الأمرَ ببذلِ الممكنِ مِنَ الإصلاحِ وأنا أقولُ: ما في شيءٍ فات؛ الخيرُ لا يفوتُ، بل نتواصَى بالصبرِ ونتواصَى بالمرحمةِ ونمدُّ الجسورَ ونَطوِي صفحةَ التقصيرِ الماضي ونستعينُ باللهِ ـ تعالى ـ في الإصلاحِ خطوةً خطوةً، فكما أنَّ البعدَ عَنِ الحقِّ والخيرِ والفسادِ يُبنَى خطوةً خطوةً، فكذلكَ الجلبُ إلى الخيرِ يكونُ كذلك خطوةً خطوةً، نسألُ اللهَ أنْ يقرَّ أعينَنا بصلاحِ أبنائِنا وبناتِنا وأنْ يقيَهم شرَّ الفتنِ ما ظهرَ مِنها وما بطنَ، وأنْ يُعيذَهم مِنَ الانحرافِ بكلِّ صوَرِه سواءٌ كانَ الانحرافُ الذي يقودُهم إلى التطرفِ وإلى الغلوِّ وإلى التكفيرِ والتفجيرِ أو الانحرافِ الذي يقودُهم إلى الانحلالِ والإلحادِ والخروجِ عَن هَديِ خيرِ الأنامِ ومجانبةِ الصراطِ القويمِ.
المقدمُ: أحسنَ اللهُ إليكُم شيخَنا وجزاكُم خيرًا.