الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى أحمَدُه حقَّ حمدِه لهُ الحمدُ كلُّه، أولُه وآخرُه، ظاهرُه، وباطنُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلهُ الأولينَ والآخِرينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه مِنْ خلقِه، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وصحبِه، ومَنِ اتبعَ سُنتَه، واقتفَى أثرَه بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أمَّا بعدُ:-
فإنَّ هذا الشهرَ المباركَ انقضَى ما يقاربُ ثُلثَه فبغروبِ شمسِ هَذا اليومِ ينقَضي مِن هذا الشهرِ المباركِ الفضيلِ الثلثانِ ويبقَى الثلُثُ، وهَذا الثلثُ المُتبقي فيهِ خيرٌ عظيمٌ، وعملٌ كثيرٌ لمَن جدَّ في طاعةِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ورغِبَ فيما عندَه فإنَّ فيهِ ليلةً عظيمةً هيَ ليلةُ القدرِ التي وصَفها اللهُ ـ تعالى ـ في كتابِه بَلْ خصَّها بسورةٍ مِنْ سوَرِ الكتابِ الحكيمِ فقالَ -جلَّ وعَلا-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدرِ:1] ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾[القدر:2] ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾[القدر:3] ﴿تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر:4] ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾[القدر:5] هذهِ السورةُ خالصةٌ للحديثِ عَنْ خِصِّيصةِ وميزةِ هذهِ الليلةِ، هذه الليلةُ هِيَ أشرفُ ليالي الزمانِ هيَ الليلةُ التي غيَّرَتْ مجرَى التاريخِ هيَ الليلةُ التي وقعَتْ فيها أعظمُ حدثٍ في تاريخِ الرسالاتِ بلْ في تاريخِ البشريةِ، إنها الليلةُ التي أنزلَ فيها اللهُ -عزَّ وجلَّ- هَذا القرآنَ الحكيمَ عَلَى سيِّدِ ولدِ آدمَ خاتمِ النبيينَ محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- هَذا الحدثُ قدْ يراهُ بعضُنا حدثًا عاديًّا؛ لأنهُ نشأَ في إسلامٍ، وهدايةٍ، وبينَ بيئةٍ مسلمةٍ لا يدرِكُ عظيمَ النقلةِ التي حصلَتْ بهذهِ الهدايةِ لكِنْ حتى تدرِكَ عظيمَ ما حصلَ للناسِ مِنْ تغييرٍ بنزولِ القرآنِ، تخيلْ أنكَ في ليلٍ دامسٍ، وعندكَ إضاءةٌ تضيءُ لكَ المكانَ، وتستطيعُ أنْ تصِلَ إلى ما تريدُ بسببِ هذهِ الأنوارِ والإضاءةِ فجأةً أُغلِقتِ الأنوارُ فلا نورَ في هذا الليلِ الدامسِ كيفَ تصلُ إلى ما تريدُ؟ كيفَ تُحصِّلُ مصالحَكَ؟ كيفَ تنتقلُ خطوةً في هَذا المكانِ؟ إنكَ لن تستطيعَ إلَّا بمشقةٍ، وعُسرٍ، هذهِ الحالُ هيَ كانتْ حالَ الناسِ قبلَ نزولِ القرآنِ إنَّ الناسِ كانوا في ظلمةٍ عظيمةٍ يقولُ اللهُ -جلَّ وعَلا- في محكمِ كتابِه:﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورَ﴾ [البقرةِ:257] فليسَ الظلَمُ واحدةً بلْ هيَ ظلُماتٌ يحيطُ بعضُها ببعضٍ، وبعضُها فوقَ بعضٍ، تحيطُ بحياةِ الناسِ في ذلكَ الزمانِ المظلمِ الذي لم تبقَ فيهِ مِنْ آثارِ الرسالةِ إلَّا بقايا لا ينتفعُ بها إلَّا أفرادٌ، ولذلكَ جاءَ في صحيحِ الإمامِ مسلمٍ مِنْ حديثِ عياضِ بنِ حمارٍ -رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ- المجاشعيِّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-«إنَّ اللهَ نظرَ إلى أهلِ الأرضِ- أي: قبلَ بَعثةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فمَقتَهُم»، والمقْتُ: أعلَى درجاتِ الغضبِ، والكراهيةِ، وعدمِ القَبولِ، وعدمِ الرضَى «فمقَتَهُم إلَّا بقايا نفَرٍ مِنْ أهلِ الكتابِ»صحيحُ مسلمٍ (2865) هذه يبيِّنُ لنا حالَ الناسِ قبلَ مبعثِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قبلَ نزولِ هَذا القرآنِ الحكيمِ الذي بهِ أنارَتِ الدنيا، الذي بهِ أشرقَتِ القلوبُ الذي بهِ عرَفَ الناسُ ربَّهم الذي لهُ الحقُّ في العبادةِ، الذي بهِ عرَفوا كيفَ يعبُدونَ اللهَ الذي بهِ عرَفوا كيفَ يسلُكونَ سبيلَ الهدايةِ، ويَنجون مِنْ أنواعِ الضلالةِ والغوايةِ، إنها نعمةٌ عظمَى لا يقدِّرُ قدرَها إلَّا مَنْ عرَفَ النقلةَ التي حصلَتْ، وتذوقَ طعمَ الهدايةِ التي جاءَ بها القرآنُ، اللهُ -جلَّ وعَلا- يبشِّرُ الناسَ كافةً، وليسَ فقطْ مَن آمنَ بلِ الناسُ كافةً فيقولُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونسَ:57] ما هَذا؟ ما هيَ الموعظةُ؟ إنها القرآنُ الحكيمُ.
ثُم يقولُ اللهُ ـ تعالَى ـ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58].
ولذلكَ مَن عرَف ما جاءَ بهِ القرآنُ مِنَ الهدايةِ أدرَكَ شرفَ هذهِ الليلةِ، هذهِ الليلةُ ليلةً سميَّتْ ليلةَ القدرِ قيلَ أي: ليلةُ الشرَفِ، مأخوذةٌ مِنْ قدْرِ الشيءِ أي: مَكانتُه، ومنزلتُه فهيَ ليلةُ شرَفٍ، ومكانةٍ، ومنزلةٍ عظمَى، وهَذا مطابقٌ؛ لأنها الليلةُ التي أنارَتْ بها الدنيا بعدَ ظُلماتِها؛ لأنَّها الليلةُ التي أنزلَ اللهُ فيها هَذا الكتابَ عَلَى قلبِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ- لأنها الليلةُ التي انبثقَ مِنها كلُّ هدايةٍ بعدَها، فجميعُ الهداياتِ التي جاءَ بها القرآنُ كانَتْ مبدأَها تلكَ الليلةُ المباركةُ الشريفةُ التي أنزلَ اللهُ ـ تعالَى ـ فيها القرآنَ عَلَى قلبِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ- إنَّ هذهِ الليلةَ سميَتْ ليلةَ القدرِ؛ لشريفِ مكانتِها، وسميَتْ ليلةَ القدرِ أيضًا؛ لأنها الليلةُ التي يُفرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ كما قالَ -جلَّ وعَلا-: ﴿حم﴾ [الدخانِ:1]﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدخان:2] ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان:3] ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان:4]
هذهِ الليلةُ المباركةُ هيَ ليلةُ القدرِ التي فيها يُفرَقُ أي: يُقضَى، ويُحكَمُ فيها كلُّ أمرٍ حكيمٍ أي: كلُّ أمرٍ محكمٍ، وهَذا القضاءُ يسمِّيها العلماءُ (القضاءَ الكونيَّ الحوليَّ) يعني: قضاءٌ قدريٌّ حوليٌّ يتعلَّقُ بأحداثِ السنةِ يَقضيها اللهُ -عَزَّ وجلَّ- في تلكَ الليلةِ ما مِنْ قضاءٍ إلَّا واللهُ عالمٌ بهِ قبلَ حدوثِه ووقوعِه فقَدْ كتبَ اللهُ مقاديرَ الأشياءِ قبلَ أنْ يخلقَ السماواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ سنةٍ كما جاءَ في صحيحِ الإمامِ مسلمٍ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍوصحيحُ مسلمٍ (2653) لكِنْ هَذا القضاءُ، القضاءُ الأزليُّ السابقُ، القضاءُ المتقدِّمُ عَلَى الخلقِ تبِعَه أقضيةٌ وأقدارٌ يجدِّدُ اللهُ فيها القضاءَ عَلَى حسبِ ما تقتضيهِ حكمَتُه-جلَّ في عُلاه- فهُناكَ (تقديرٌ حوليٌّ) وهُو ما يكونُ في ليلةِ القدرِ.
وهُناك (تقديرٌ عُمريٌّ)، وهُو ما يكونُ عندَ كتْبِ عملِ الإنسانِ في رحِمِ أمِّه، وأجلِه، ورزقِه، وشقيٍّ أو سعيدٍ فيُأمَرُ الملكُ بكتابةِ هذهِ الأربعِ، وهذا التقديرُ يسمَّى التقديرَ العمريُّ الذي يكونُ لعمرِ الإنسانِ.
وهُناك (تقديرٌ يوميٌّ) يقضيهِ اللهُ -عزَّ وجلَّ- وهُو المشارُ إليهِ بقولِه في سورةِ الرحمنِ:﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمنِ:29] جلَّ في عُلاه سُبحانَه وبحمدِه شأنٌ يرفعُ أقوامًا، ويضعُ آخرينَ، يُحيي أقوامًا، ويميتُ آخرينَ، يصحُّ أبدانًا ويُمرِضُ آخرينَ، يُغني قومًا ويُفقِرُ آخرينَ، كلَّ يومٍ هُو في شأنٍ -سبحانَه وبحمدِه- كلُّ هَذا التقديرِ ليسَ إلَّا ناتجًا عَنْ حكمةٍ، ورحمةٍ ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ إيش؟ ﴿حَكِيمًا﴾ [الإنسانِ:30]
فكلُّ أقضيةِ اللهِ وأقدارِه لا تخلُو مِن حكمةٍ بلْ فيها مِنَ الحكمةِ ما يدرِكُه الناسُ، وفيها مِنَ الحكمةِ ما لا يتبينُ لهم لكِنْ ما مِن قضاءٍ يَقضيه اللهُ للناسِ، ولا قدَرٍ يقدِّرُه اللهُ ـ تعالى ـ في الكونِ إلَّا ولهُ فيهِ حكمةٌ إذا عرَفْنا أنَّ ليلةَ القدْرِ سميَتْ بهذا الاسمِ لأجلِ ما فيها مِنْ عُلوِّ المنزلةِ، والشرفِ، والمكانةِ، ولأجلِ ما يكونُ فيها مِنْ أقضيةٍ يَقضي اللهُ ـ تعالى ـ فيها ما يكونُ في الحولِ؛ ولذلكَ يتقربُ المؤمنُ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- بأنواعِ الطاعاتِ، وصنوفِ القرُباتِ في هذهِ الليلةِ رجاءً يَقضي لهُ خيرًا، وأنْ يتوقَّى ما يكونُ مِنْ أقضيةٍ يكرَهُها ما مِنْ قضاءٍ يقضيهِ اللهُ إلَّا هُو خيرٌ لكِنْ باعتبارِ الإنسانِ نفسِه قَدْ يكونُ خيرًا وقدْ يكونُ شرًّا، لكِنْ باعتبارِ فعلِ اللهِ، وقضائِه ما مِن قضاءٍ يقضيهِ إلَّا وهُو خيرٌ فلا يكونُ منهُ إلَّا الخيرُ كما قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ-: «والخيرُ كلُّه في يدَيكَ، والشرُّ ليسَ إلَيكَ»صحيحُ مسلمٍ (771) فلا يُضافُ إلَيهِ قضاءٌ فيهِ شرٌّ بالكليةِ إلَّا أنهُ ما مِنْ شيءٍ في الكونِ إلَّا بقضائِه، وقدَرِه، وهُو هَذا القضاءُ وهَذا القدرُ هُو في فعلِ اللهِ خيرٌ، وفيما يتعلقُ بالمخلوقينَ قدْ يكونُ خيرًا، وقدْ يكونُ شرًّا فمثَلًا المرضُ هُو في قضاءِ اللهِ خيرٌ لِما يترتبُ علَيهِ مِن تمييزِ الإنسانِ بينَ حالِ الصحةِ والمرض، ولِما يترتبُ علَيهِ مِنَ الأجرِ والمثوبةِ عَلَى مَنْ وقعَ علَيهِ المرضُ، وصبَرَ، ولِما يترتبُ عَلَيهِ مِن نفعِ الآخَرين بعيادَتِه، ونفعِ المُطببين بتطبيبِه، وما إلى ذلكَ مِنَ المنافعِ الكثيرةِ التي تترتبُ عَلَى هَذا القضاءِ، وإنْ كانَ بالنسبةِ للمريضِ شرًّا بالنسبةِ لهُ، ولكنهُ بالنسبةِ لمجموعِ أو لقدَرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- والفعلِ الصادرِ منهُ لا شكَّ أنهُ خيرٌ لا يقضي اللهُ -عزَّ وجلَّ- لعبدِه المؤمنِ قضاءً إلا كانَ لهُ فيهِ خيرٌ كما جاءَ في الصحيحِ مِن حديثِ صُهيبٍ -رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ-:«لا يقضِي اللهُ لعبدِه المؤمنِ قضاءً إلَّا كانَ لهُ فيهِ خيرٌ إنْ أصابتْهُ ضراءُ صبَرَ فكانَ خيرًا لهُ»صحيحُ مسلمٍ (2999) إذًا هُو خيرٌ لهُ بالنظرِ إلى العاقبةِ، وهُو الصادرُ عَلَى ذلكَ القضاءِ المكروهِ؛ لأنهُ يؤجَرُ عَلَيهِ، ويُثابُ عَلَى صبرِه، وإنْ أصابتْهُ ضراءُ شكرَ فكانَ خيرًا لهُ لا ليسَتِ الخيريةُ فقَطْ في ما يحبُّ، وما يشتَهي، لا، إنَّما في ثمرةِ ذلكَ المتعلقةِ بحقِّ اللهِ وهُو شُكرُه ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ:13] فالإنسانُ المؤمنُ بينَ شكرٍ، وبينَ صبرٍ بينَ قضاءٍ يكرَهُه يصبرُ عَلَيهِ، وبينَ قضاءٍ يحبُّه يشكرُ اللهَ عَلَيهِ، ولا يكونُ ذلكَ إلَّا للمؤمنِ، أي: هذهِ الحالُ أنَّ ما يصيبُه لا يخلُو مِنْ خيرٍ، لا يكونُ ذلكَ إلا للمؤمنِ؛ لأنهُ بينَ صبْرٍ، وشكرٍ، إذًا أيُّها الإخوةُ الأكارمُ، هذهِ الليلةُ ليلةٌ عظيمةٌ، ولشدةِ حرْصِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- علَى إدراكِها، وعَلَى إحداثِ الخيرِ فيها، وعَلَى التقربِ إلى اللهِ بأنواعِ القرُباتِ، اعتكفَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في سنةٍ مِنَ السنواتِ شهرًا يطلبُ ليلةَ القدرِ كما جاءَ في الصحيحِ مِن حديثِ أبي سعيدٍ -رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ -«أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- اعتكفَ العشرَ الأُوَلَ مِن رمضانَ ثُم إنهُ لمَّا انقضَتِ العشرُ، قالَ لأصحابِه: «مَنْ كانَ قدِ اعتكفَ معَنا فليعتكِفْ فإنَّما نطلُب أمامَنا»بنحوِه في صحيحِ البخاريِّ (813) وماذا يطلُبونَ؟ يطلبونَ ليلةَ القدرِ. يتحرونَ ليلةَ القدرِ، وذلكَ قبلَ أنْ يخبرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- بأنَّها في العشرِ الأواخرِ فمكثَ الصحابةُ حتى انقضَتِ العشرُ الأوسطُ في صباحٍ مثلِ هَذا اليومِ في يومِ عشرينَ صباحًا خرجَ الصحابةُ فقالَ لهمُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- «مَنْ كانَ قدِ اعتكفَ معَنا فليرجِعْ فإنَّما نطلبُ أمامَنا وقدْ أتاني آتٍ، وأخبَرَني أني أسجُدُ في صبيحَتِها -يعنَي ليلةَ القدرِ -في ماءٍ وطينٍ فأخبرَتْه الملائكةُ أوحِيَ إليهِ أنهُ يسجُدُ في صبيحةِ ليلةِ القدرِ في ماءٍ وطينٍ». انظُرِ العلامةَ قبليةً أو بعديةً، علامةَ ليلةِ القدرِ قبليةً أو بعديةً؟ بعديةً يسجدُ في صبيحتِها يعني انقضَتْ، وهكَذا كلُّ العلاماتِ التي جاءَتْ في ليلةِ القدرِ غالبُها بعديةٌ، وليسَتْ ثمتَ علامةٌ قبليةٌ لتجتهِدَ النفوسُ، وتبذُلَ الطاقةَ في إدراكِ هذهِ الفضيلةِ، المقصودُ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- اعتكفَ شهرًا كامِلًا يطلبُ هذهِ الليلةَ؛ ولذلكَ قالَ العلماءُ: إنَّ الاعتكافَ المشروعَ في العشرِ الأواخرِ مِنْ رمضانَ لهُ مصالحُ عديدةٌ، ومنافعُ كثيرةٌ أعظمُ ذلكَ، وأكبرُه هُو طلبُ ليلةِ القدرِ التي هِي خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ هَذا هُو مقصودُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في اعتكافِه أنهُ كانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-يجتهدُ في الطاعةِ ويخلو بربِّه، وينقطعُ عَن كلِّ الشواغلِ التي تعيقُه عَنْ أنْ يصلَ إلى فضلِ اللهِ ورحمتِه في هذهِ الليلةِ المباركةِ الشريفةِ إذا يا إخواني لندرِكَ أنَّ الاعتكافَ المشروعَ في العشرِ الأواخرِ ليسَ لأنَّ الإنسانَ لا يجدُ سكنًا، ولا لأنهُ (يغيرُ جوًّا)، ولا لأنهُ يجلِسُ يقرأُ فقطْ إنما هِي خَلوةٌ باللهِ -عزَّ وجلَّ-؛ لإدراكِ فضلِ هذهِ الليلةِ، والاجتهادِ في إدراكِ خيرِها فهيَ ليلةٌ عظيمةٌ تستحقُّ مِنَ المؤمنِ أنْ يبذلَ ما يستطيعُ، وما يطيقُ مِنَ الطاعةِ؛ لإدراكِ فضلِها، يكفي في ذلكَ أنها خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ ليسَ روايةً، ولا قولَ عالمٍ، ولا اجتهادَ مجتهدٍ، هَذا قولُ ربِّ العالمينَ، بعدَ أنْ عظَّمَ شأنَها ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدرِ:1] ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ [القدر:2] ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر:3] جاءَنا العلمُ، والخبرُ مِنَ اللهِ الذي هُو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، أنَّ فضلَها وخيرَها يبلغُ هَذا المبلغَ العظيمَ؛ لذلكَ أيُّها الإخوةُ ينبَغي لنا أنْ نملأَ قلوبَنا بهجةً أنْ بلغَنا اللهُ ـ تعالى ـ هذهِ العشرَ، وأنْ نُريَ اللهَ ـ تعالَى ـ مِنا خيرًا ما استطَعْنا، كمْ مرَّ علَينا مِن رمضانَ؟ كمْ مرتْ عَلَينا هذهِ الليلةُ ولم نفُزْ بها بالعطاءِ، خسارةٌ أنْ تمرَّ عليكَ الأعوامُ تلوَ الأعوامِ، وفيها هذهِ الليلةِ ما لا تدرِكُ فضلَها ما أقمتَ سنةً ولم يقلِ اطلُبْها خلالَ سنةٍ كاملةٍ ولا خلالَ الشهرِ كاملًا إنَّما اطلُبْها خلالَ عشرِ ليالٍ يمكنُ تنقصُ ليلةٌ وتصيرُ تسعَ ليالٍ، أليسَ هَذا بالقليلِ! أليسَ هَذا عددًا يسيرًا سرعانَ ما ينقَضي؟ بلَى واللهِ، ولو قيلَ لواحدِنا إنكَ ستدرِكُ مليونَ ريالٍ بعملِك في هذهِ الليالي، واللهِ لا يفترُ عَنِ العملِ ليدرِكَ المليونَ لأنهُ سيُدركُ بهِ مصالحَه يقضي ديونَه، يعلمُ أولادَه، يَبني بيتًا، يشتري سيارةً، يتزوجُ، مليونٌ خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ، ليلةُ القدرِ خيرُ مِن ملايينِ الدنيا كلِّها، مَن فازَ بها فازَ بعطاءٍ عظيمٍ، وفتوحاتٍ كبرَى، ومواهبَ عظيمةٍ مِنَ اللهِ الكريمِ الذي يُعطي عَلَى القليلِ الكثيرَ؛ لذلكَ يا إخواني لنستعِدْ ونتهيَّأْ، إنَّما تكونُ الأعمالُ ثمرةُ المقاصدِ والنياتِ، فمَنْ صدقَ اللهُ بلَّغَه اللهُ مرادَه مَنْ رغبَ فيما عندَ اللهِ بصدقٍ، وملأَ قلبَه رغبةً فيما عندَ اللهِ، واللهِ لا يخيِّبُه اللهُ، واللهِ لا يردُّه اللهُ ما ردَّ طالبًا، ولا خيبَ قاصدًا، ولا أعرضَ عَنْ جادٍّ مقبلٍ، بلْ مِن فضلِه أنهُ إذا قامَ أحدُنا في صلاتِه يقولُ: اللهُ أكبرُ، أقبلَ ربُّ العالَمينَ علَيهِ بوجهِه -جلَّ في عُلاه- ولا ينصرفُ عنكَ إلَّا إذا انصرفْتَ مِنْ صلاتِك أليسَ هذا دليلَ الكرمِ؟ يقولُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ- كما في الصحيحَينِ مِن حديثِ أبي هُريرَةَ «أنا عِندَ ظنِّ عَبدي بي، وأنا معَه إذا ذكَرني في نفسِه ذكرتُه في نَفسي، وإذا ذَكرَني في ملإٍ ذكرْتُه في ملإٍ خيرٍ منهُ» ثُم يقولُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- في الحديثِ الإلاهيِّ، «وإذا تقرَّبَ إليَّ عَبدي شِبرًا تقربْتُ إلَيهِ ذراعًا، وإذا تقربَ إليَّ ذراعًا تقربتُ مِنهُ باعًا، وإذا أتاني يمشِي أتيتُه هرولةً»صحيحُ البخاريِّ (7405)، ومسلمٍ (2675) أليسَ هذا فضْلًا؟ أينَ القلوبُ الصادقةُ الراغبةُ فيما عندَ اللهِ؟، إنَّ القلوبَ الصادقةَ الراغبةَ فيما عندَ اللهِ لا تسمعُ هذهِ الأحاديثَ، ولا تدركُ هذهِ الأيامَ ثُم تتلكَّأُ، وتتباطأُ، وتشتغلُ بالصفقِ في الأسواقِ، والذهابِ يمينًا ويسارًا، والحديثِ معَ القريبِ والبعيدِ، والانشغالِ بما يشتغلُ بهِ كثيرٌ مِنَ الناسِ بلْ ستجدُه خاليًا بنفسِه يقوِّمُ عوجَها، ويبحثُ عنْ خطئِها، ويستعتبُ ربَّ الأرضِ والسماءِ يقولُ يا ربِّ اغفرْ لي، النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-كانَ يقولُ في سجودِه كما في الصحيحِ مِن حديثِ عائشةَ أنها طلبَتِ النبيَّ ليلةً في غيرِ ليالي رمضانَ فيما يظهرُ قالتْ فوقعَتْ يدايَ عَلَى قدمَيهِ منصوبتَيْنِ وهُو في المسجدِ يعني في مكانِ سجودِه يقولُ: «أعوذُ برضاكَ مِن سخطِك، وبمُعافاتِك مِن عقوبتِك، وبكَ مِنكَ لا أُحصِي ثناءً علَيكَ»صحيحُ مسلمٍ (486) انظُرْ هذهِ الكلماتِ التي فيها تمامُ التذللِ، والخضوعِ للهِ، والإقرارِ بالخطإِ، والتقصيرِ، والخروجِ عَنْ كلِّ ما يراهُ الإنسانُ في نفسِه مِن كمالٍ، يا أخي مَهما تزينْتَ للناسِ، ومهما بديتَ عندَهم جميلًا فاللهُ مطلعٌ علَى عُجَرِك وبُجَرِك، علَى زينِك وشينِك، عَلَى عيبِك وصحيحِك، فصحِّحْ قصدَك وأقبِلْ عَلَى اللهِ بقلبٍ صادقٍ، اطلُبْ مِنَ اللهِ ما تشاءُ فإنهُ -جلَّ وعلا- لا يعجِزُه شيءٌ اطلبْ مِنَ اللهِ وأنتَ موقنٌ أنَّ اللهَ لن يرُدَّك، إذا دَعوتُمُ اللهَ إذا سألتُمُ اللهَ فاسألوهُ وأنتُم موقنونَ بالإجابةِ لا يسألُ الواحدُ واللهِ بس يقولُ كلامًا: ربِّ اغفِرْ لي وبس ما يستحضرُ أنَّ اللهَ -جلَّ في علاه- تتلاشَى بجنبِ مغفرتِه الذنوبَ مهما عظُمَتْ ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمرَ:53] .
هذهِ معانٍ أيُّها الأخوةُ، وأمورٌ لا بُدَّ أنْ نستحضرَها ونحنُ بينَ يدَيْ مَوسمٍ عظيمٍ، تجارةٍ كبرَى قدْ لا تدرِكُها غيرَ هذهِ السنةِ، ولا ندري أنُدرِكُها أو لا ندركُها بينَنا وبينَها ساعاتٌ لكِنْ نسألُ اللهَ بفضلِه وكرمِه أنْ يمدَّنا بالعافيةِ، والصحةِ، وأنْ يطيلَ في أعمارِنا عَلَى طاعتِه، وأنْ يرزُقَنا اغتنامَ هذهِ الليالي، والأيامِ فيما يرضَى بهِ عنَّا، اسألوا اللهَ بصِدقٍ، وأمِّلُوا مِنهُ عطاءً، وفضلًا، وخيرًا.
إذا لم نُصححِ المسارَ إذا لم نصدُقْ معَ اللهِ في مثلِ هذهِ الليالي والأيامِ متَى يكونُ الصدقُ؟، سيدُ ولدِ آدمَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- الذي غفرَ اللهُ لهُ ما تقدمَ مِن ذنبِه وما تأخرَ، وحطَّ عنهُ الأوزارَ يجتهدُ في هذهِ الليالي، تقولُ عائشةُ: كانَ رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- «إذا دخلَ العشرُ-يعني بغروبِ شمسِ هَذا اليومِ- جدَّ، وشدَّ المئزرَ، وأحيا ليلَه، وأيقظَ أهلَه» صحيحُ مسلمٍ (1174) كلُّ هذهِ، دلالةٌ علَى عظيمِ الرغبةِ في نفسِه، وفيمَن حولَه؛ لأنهُ لم يقتصِرْ في الخيرِ علَى نفسِه بلْ أيقظَ أهلَه؛ ليطلُبَ مِن فضلِ اللهِ، وليتعرَّضوا لنفَحاتِه-جلَّ في عُلاه- وكانَ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-بينَ تلاوةٍ، وذكرٍ، وقراءةٍ للقرآنِ في هذهِ الليالي المباركةِ فإنهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- صَلَّى بأصحابِه كما في السننِ مِن حديثِ أبي ذرٍّ ليلةً حينَ بقيَ سبعٌ، يعني في ليلةِ ثلاثةٍ وعِشرينَ تقريبًا شطرُ الليلِ ثُم صلَّى بهِم في ليلةٍ أخرَى أكثرَ مِن ذلكَ قليلًا فقالَ لهُ أصحابُه: هَلا نفلتَنا بقيَ ليلتِنا؟ يعني هلا أقمتَ بِنا ما بقيَ مِنَ الليلِ قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: «مَنْ قامَ معَ الإمامِ حتى ينصرفَ كُتبَ لهُ قيامُ ليلةٍ»سننُ أبي داود (1375)، وسننُ الترمذيِّ (806)، وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحُ يقولُ الراوي: فصلَّى بِنا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- عامةَ الليلِ حتَّى خشينا ألَّا ندركَ الفلاحَ يعني: السحورُ مِنْ طولِ قيامِه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فينبَغي لنا أنْ نحرصَ عَلَى هذهِ المرحلةِ، على هذهِ المنزلةِ القادمةِ مِنْ هَذا الشهرِ المباركِ، ونجتهدَ فيها بالطاعةِ بما نستطيعُ، ونعلمَ أنَّ كثيرَنا في ميزانِ حقِّ اللهِ قليلٌ، أننا مَهْما بلَغْنا طاعةً وعبادةً فالحقُّ حقُّ ربِّنا علَينا عظيمٌ، ولذلكَ قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ- كما في الصحيحِ مِن حديثِ أبي هُريرَةَ «واعلَموا أنَّ أحدًا منكُم لن يدخلَ الجنةَ بعملِه قالوا ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ ولا أنا إلَّا أنْ يتغمدَنيَ اللهُ برحمتِه»صحيحُ البخاريِّ (6463)، ومسلمٍ (2716) أيُّها الإخوةُ، إنَّ أعمالَ هذهِ العشرِ متنوعةٌ، ومِنها ما هُو فرْضٌ، ومِنها ما هُو نفلٌ، والعاقلُ الرشيدُ يبدأُ بالفرائضِ، صلاتُك في الجماعةِ، ومحافظَتُك عَلَى الصلاةِ في أوقاتِها وإقامتُها هُو خيرٌ مِنْ كثيرِ التطوعاتِ التي تشتغلُ، بلْ هُو خيرٌ مِنْ كلِّ التطوعاتِ مِنْ جنسِ تلكَ العبادةِ، فصلاةُ الظهرِ خيرٌ مِنْ كلِّ تطوعٍ مِنْ جنسِ تلكَ العبادةِ في ذلكَ اليومِ، زكاتُك الواجبةُ خيرٌ مِنْ كلِّ صدقةٍ في هذهِ الأيامِ وفي سائرِ الأيامِ، جاءَ في الصحيحِ مِنْ حديثِ أبي هُريرَةَ -رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ - أنَّ النبيَّ-صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قالَ: «وما تقرَّبُ إليَّ عَبدي بشيءٍ أحبَّ إلي ممَّا افترضْتُه عَلَيهِ»صحيحُ مسلمٍ (2653) نحنُ الآنَ بينَ العشرِ، بينَ أيدينا العشرُ نتفقدُ أنفسَنا في الواجباتِ، واجباتِ الصلاةِ، واجباتِ الزكاةِ، واجباتِ الصومِ، واجباتِ حقوقِ الخلْقِ مِنْ برِّ الوالِدينِ، وصلةِ الرحِمِ وسائرِ الواجباتِ التي هيَ فرائضُ، كمِّلْها ثُم إذا كنتَ علَى حالٍ مُرضيَةٍ في أداءِ الفرائضِ؛ فسابِقْ في النوافلِ؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قالَ: «ولا يزالُ عَبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافلِ»صحيحُ مسلمٍ (6502) بعدَ إيش؟ ها يا إخوانُ بعدَ الفرائضِ، (لا يزالُ) انظُرْ، الدوامُ، والاستمرارُ، والحرصُ، والدأبُ لا يزالُ عَبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ مِنْ كلِّ جنسٍ مِنْ صلاةٍ، وصدقةٍ، وحجٍّ، وصومٍ، وإحسانٍ إلى الأقاربِ، وبِرِّ الوالِدينِ، وخدمةِ الجيرانِ في ما زادَ عَلَى قدرِ الواجبِ، ولا يزالُ عَبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ إذا حصلَ لهُ ذلكَ حتى أحبَّه؛ شرفٌ عظيمٌ، ومنزلةٌ كبرَى، أنْ تبلُغَ هذهِ المرتبةَ، مرتبةَ أنْ يحبَّكَ اللهُ، ومَنْ بلغَ هذهِ المرتبةَ فليبشِرْ؛ فإنهُ قدْ فازَ بالمعيةِ في أعلَى صوَرِها، أعلَى صورِ المعيةِ أنْ يحبَّك اللهُ، مبدأُها في صدرِ هَذا الحديثِ، أولِ هَذا الحديثِ قالَ فيهِ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-«مَنْ آذَى لي وليًّا فقَدْ أذنْتُه بالحرْبِ»، وخاتمةُ هَذا الحديثِ قالَ فيهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: «وإذا أحببْتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ بهِ، وبصرَه الذي يُبصِرُ بهِ، ويدَه التي يبطِشُ بِها، ورجلَه التي يَمشِي بِها» هذهِ كلُّها معيةُ تسديدٍ في السمعِ فلا تسمعُ إلَّا خيرًا، وتسمعُ ما ينفعُك في دينِك، ودُنياك ليسَ فقطْ في أمرِ دينِك، البصرُ، تبصرُ ما ينفعُك في دينِك ودنياك حركةُ يدِك التي تأخذُ بها وتُعطي وتتعاملُ تكونُ مصاحبةً لمعيةِ اللهُ -عزَّ وجلَّ- فتدرِكُ ما تشتهي، وتحبُّ في أمرِ دينِك ودنياك، نقلُ قدمِك مِنْ مكانٍ إلى مكانٍ في كلِّ خطوٍ، اللهُ معَك، اللهُ أكبرُ يؤيدُك، يحفظُك، يعينُك، يذبُّ عنْكَ، يسدِّدُك، يبلِّغُك أمانيكَ هَذا كلُّه يدركُه بهَذا العملِ المكونِ مِن مَرتبتَينِ، تكميلِ الواجباتِ ثُم بعدَ ذلكَ المسارعةُ والاستزادةُ مِنَ الخيراتِ «وما تقربَ إليَّ عَبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضْتُه عَلَيهِ ثُم لا يزالُ عَبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أحِبَّه فإذا أحببتُه كنتَ سمعَه الذي يسمعُ بهِ وبصرَه الذي يبصِرُ بِه، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجلَه التي يَمشي بها».
ثُم بعدَ ذلكَ الناسُ بينَ أمرَيْنِ بينَ ما يخافونَ حصولَه وبينَ أعداءٍ متربصينَ «ولئنِ استنصَرني لأنصُرَنَّه» كفايةٌ مِنَ الأعداءِ وظهورٌ عَلَيهم وغلبةٌ ولئنِ استَنصَرني لأنصرَنَّه، طيب ما يمكِنُ يجيك مخاوف! بلَى. فمَنْ يعيذُك، ومَن يحميكَ؟ «ولئنِ استعاذَني» أي: إذا طلبَ الحمايةَ مِني، والاعتصامَ بي «ولئنِ استَعاذَني لأعيذَنَّه» كلُّ هَذا بتكميلِ هاتينِ المرتبتَيْنِ؛ مرتبةِ أداءِ الواجباتِ، ثُم بعدَ ذلكَ المسارعةُ في الاستكثارِ مِنَ النوافلِ والقرُباتِ بشتَّى صوَرِها، يا أخي أبوابُ الطاعةِ ميسرةٌ، مذلَّلةٌ، اللهُ -عزَّ وجلَّ- يقولُ في كتابِه: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر:17]تيسيرُ القرآنِ فقطْ ليسَ فقطْ فيما يتعلقُ بتلاوتِه، وقراءتِه هكذا يفهمُ كثيرٌ مِنَ الناسِ أنَّ تيسيرَ القرآنِ في القراءةِ والنطقِ، والحفظِ، لا، هُناك تيسيرٌ أبعدُ مِنْ هَذا وأعظمُ وهُو تيسيرُ فهمِه، تيسيرُ العملِ بهِ، تيسيرُ امتثالِ أمرِه، وتركِ نَهيه لكِنْ لمَن؟ لمَن صدقَ.
اللهُ -عزَّ وجلَّ- يقولُ: ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ ليسَ لكلِّ أحدٍ إنما لمَن كانَ فعلًا راغبًا فيما عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- مقبِلًا علَيهِ ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاَ﴾ [العنكبوتِ:69] يا إخواني لنجعلْ لنا خطةً في هذهِ الأيامِ العشرةِ القادمةِ، والليالي المباركةِ القادمةِ أنْ نستثمرَها غايةَ الإمكانِ لا يعني هَذا ألَّا يبتسمَ الإنسانُ، لا يعني هَذا ألَّا يتحدثَ معَ أهلِه بما تقتضيهِ المصلحةُ، وبما يدخِلُ بهِ المؤانسةَ.
في الصحيحِ مِن حديثِ عليِّ بنِ الحسينِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُما- أن صفيةَ زوجةَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّمَ- أخبرَتْه أنها أتتِ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وهُو معتكفٌ فحدَّثَها ثُم أرادتْ الانصرافَ وفي روايةٍ أنَّ زوجاتِه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- حضرْنَ فانصرَفْنا ثُم بقيَتْ صفيةُ فحدَّثَها ثُم لَما أرادَتْ الانصرافَ خرجَ معَها ليوصِلَهاصحيح البخاري (2038)، ومسلم (2175)، وهذا يدلُّ علَى إيش؟ على أنَّ الاعتكافَ لا يقطعُ الإنسانَ عما تقتضيهِ المصلحةُ، وإنهُ لا يعني إنهُ لا يكونُ لهُ أيُّ نوعٍ مِنَ الفسحةِ التي يتقوَّى بها عَلَى طاعةِ اللهِ، ويؤدِّي بها حقوقَ الخلْقِ بلْ حتى التزينُ في المنظرِ والهيئةِ كانَتْ مِن هدْيِه في معتكَفِه ففي الصحيحَينِ مِن حديثِ عائشةَ -رضيَ اللهُ تعالَى عنْها-أن سيدَ ولدِ آدمَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-كانَ يُخرِجُ إلَيها رأسَه فتُرجِّلُه وهُو معتكفٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ. صحيح البخاري (296) ترجلُه يَعني ترتِّبُه، وتنظفُه، وتمشِّطُه وهُو معتكِفٌ، فينبَغي أنْ يكونَ المعتكفُ علَى حالٍ مستقيمةٍ في صلَتِه باللهِ -عزَّ وجلَّ-، وفي صلتِه بالخلقِ بأداءِ الحقوقِ، وفي عنايتِه بنفسِه حتى يتنشطَ علَى الطاعةِ، ويقومَ بما ينبَغي مِنَ الإحسانِ، والقربَى.
نحنُ إن شاءَ اللهُ ـ تعالَى ـ في هذا المجلسِ مِن كلِّ يومٍ فجرًا، وكذلكَ فيما يتيسرُ أيضًا بعدَ صلاةِ التراويحِ سنقرأُ بعضَ الأحاديثِ المتعلقةِ بالأحكامِ المهمةِ لهذهِ الأيامِ سنقرأُ في كتابِ الاعتكافِ، وفي بعضِ أحكامِ الصومِ أيُّها الإخوةُ الاعتكافُ مأخوذٌ مِن لزومِ الشيءِ، يقولونَ فلانٌ عكَفَ عَلَى كذا أي: لزِمَه، ومنهُ قولُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- في قولِ إبراهيمَ لقومِه: ﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ﴾ [الأنبياء:52] يعني : ملازِمونَ، لكنِ العكوفُ ليسَ فقطْ لزومًا بلْ هُو شيءٌ زائدٌ عَلَى ذلكَ وهُو لزومٌ مقترنٌ بالمَحبِّة لا يعكفُ الإنسانُ عَلَى شيءٍ إلَّا ويحبُّه أو يحبُّ ثمرةَ مُلازَمتِه لهُ؛ ولذلكَ الاعتكافُ الذي نتحدثُ عنهُ مِنْ أنهُ أبرزُ أعمالِ العشرِ هُو لزومُ بيتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ للطاعةِ، والتعبُّدِ، هَذا تعريفُ الاعتكافِ فهُو لزومُ مسجدٍ مِنَ المساجدِ للعبادةِ للطاعةِ، وإذا كانَ هَذا حاضرًا في أذهانِنا، أيُّها الإخوةُ عرَفْنا أنَّ ما يفعلُه كثيرٌ مِنَ الناسِ مِن إضاعةِ الوقتِ في النومِ الزائدِ عنِ الحاجةِ، مِن إضاعةِ الوقتِ في الحديثِ في الأخذِ والعطاءِ وسائرِ ما يكونُ مِنَ الأعمالِ الخارجةِ عنْ هَذا المقصودِ أنهُم لم يُحقِّقوا مقصودَ الاعتكافِ، وهُنا أقولُ نحنُ كثيرًا ما نهتمُّ بصوَرِ الأعمالِ، ونغفلُ يا إخواني عنْ رُوحِها، تجدُ الواحدَ مِنا يقولُ حججتُ الحمدُ للهِ، حججتُ عشرَ مراتٍ خمسَ مراتٍ مرةً، طيب يا أخي كيفَ كانَ حجُّك؟ هلْ كانَ قالبًا وقلبًا، صورةً وروحًا كما كانَ حجُّ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- يقولُ صليْتُ، طيب صلَّيْنا لكِنْ هلِ الصلاةُ فقطْ ركوعٌ وسجودٌ خالٍ مِنْ الروحِ؟ روحٍ لا بُدَّ أنْ نتفقدَها، قدْ أفلحَ المؤمنونَ، مَن هُم؟ الذينَ هُم في صلاتِهم راكِعونَ، ساجِدونَ، قائمونَ، قاعدونَ، لا خاشِعونَ؛ لأنَّ الخشوعَ هُو روحُ الصلاةِ فلا بُدَّ في الأعمالِ ألَّا نقتصرَ فقطْ عَلَى الصورةِ، ونقولَ بصراحةٍ إنهُ نحنُ في الاعتكافِ نقتصرُ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ على الصورةِ إنهُ الواحدُ يدخلُ مسجدًا ويسجدُ فيهِ سواءٌ بيتُ اللهِ الحرامُ أو كانَ غيرَه مِنْ مساجدِ اللهِ -عَزَّ وجَلَّ- في أرضِه ويغفُلُ الإنسانُ، طيب، أنتَ حبسْتَ نفسَك في المسجدِ وإيش تسوي؟ ماذا تصنعُ؟ تعملُ ماذا؟ أنت حبسْتَ نفسَك في المسجدِ لعبادةِ اللهِ، تعريفُ الاعتكافِ، راجِعْ كلامَ العلماءِ: لزومُ بيتٍ مِن بيوتِ اللهِ للتعبدِ للطاعةِ، هَذا هُو الغرضُ، هذا هُو المقصودُ فإذا كنتَ لزمْتَه للسواليفِ، والحديثِ، الذهابِ والمجيءِ، النومِ، إذ جاءَ الوقتُ فإنكَ صح معتكفٌ لكِن لم تُحقِّقْ غايةَ الاعتكافِ، ولا مقصودَه؛ ولذلكَ لا بُدَّ أنْ نبحثَ في كلِّ الأعمالِ وليسَ فقطْ في الاعتكافِ يعني قدْ يقولُ قائلٌ نحنُ لسْنا معتكِفينَ، هذهِ الإشكاليةُ لا تقتصرُ عَلَى الاعتكافِ بلْ تكونُ في كثيرٍ مِنَ الأعمالِ أننا نعتَني بصوَرِها ورسومِها دونَ أنْ ننفذَ إلي مقاصدِها وغاياتِها، وهُنا يفترقُ الأجرُ، والثوابُ، والأثرُ في كلِّ عملٍ مبنيٍّ عَلَى إقامةِ الصورةِ معَ إقامةِ الروحِ، الصلاةُ التي تكونُ خاليةً مِنَ الخشوعِ قدْ تبرأَ بِها الذمةُ إذا كانَ الخلوُّ ليسَ خلوًّا كليًّا قدْ تبرأُ بها الذمةُ، لكِن مِن حيثُ حصولُ السبقِ، مِن حيثُ حصولُ الفوزِ، مِن حيثُ حصولُ التقدمِ لا يكونُ هَذا إلَّا لمَن حققَ المقصودَ مِنَ العبادةِ؛ ولذلكَ يقولُ اللهُ ـ تعالَى ـ في الصلاةِ: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرَ﴾ [العنكبوتِ:45]ثُم يقولُ: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾، وفي الصحيحِ مِن حديثِ أبي هُريرَةَ-رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ -يقولُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: «مَنْ لم يدَعْ قولَ الزورِ والعملَ بهِ» قولُ الزورِ، يقولُ القولَ الباطلَ المحرمَ، والعملَ بهِ يعني: العملُ بالمحرمِ «فليسَ للهِ حاجةٌ في أنْ يدعَ طعامَه وشرابَه» صحيحُ البخاريِّ (1903) إذا يا إخواني ليسَ المقصودُ أنْ أمسِكَ عنِ الأكلِ، والشربِ، والشهوةِ ثُم بعدَ ذلكَ أتركُ لنَفسي المجالَ بالصخبِ، والجهلِ، والمشاتمةِ، والكذبِ، والغيبةِ وسائرِ المحرماتِ الأخرَى، لا، لم يحقِّقِ المقصودَ مِنَ الصومِ؛ لأنَّ الصومَ إنما غايتُه، ومقصودَه وقايةُ النفسِ السيئاتِ «الصيامُ جُنةٌ» كما قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- مَن هَذا نفهمُ أنَّ الاعتكافَ مقصودَه، وغرضَه هُو الخلوةُ باللهِ -عزَّ وجلَّ- عكوفُ القلبِ عَلَى اللهِ لزومُ القلبِ هَذا المحبوبَ -جلَّ في عُلاه- كيفَ ذلكَ يكونُ؟ يكونُ ذلك بقراءةِ كتابِه، وتدبُّرِ آياتِه، والاشتغالِ بطاعتِه، والإكثارِ مِنَ الصلاةِ في ليالي هذهِ الأيامِ، والمحافظةِ عَلَى الفرائضِ، وإقامةِ حسنِ الصلةِ بالناسِ، والعنايةِ بالنفسِ، والعنايةِ بمَن يجاوِرُك، كلُّ هَذا مما يتحققُ بهِ مفهومُ الاعتكافِ ومعناهُ ليسَ الاعتكافَ مَظهرًا ولا شكلًا؛ لذلكَ حصلَ في زمنِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-مَنِ اعتكفَ وكانَ يعتكِفُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وسيمرُّ علَينا في الحديثِ، فجاءتْ عائشةُ استأذنتِ النبيَّ في الاعتكافِ فأذِنَ لها ثُم جاءَتْ حفصةُ فضربَتْ خباءً، خباءٌ يعني: شيئٌ تسترُ بهِ نفسَها، مكانٌ مختصرٌ تسترُ بهِ نفسَها مثلَ الخيمةِ الصغيرةِ، ثُم جاءَتْ حفصةُ فاستأذنَتْ في الاعتكافِ فأذِنَ لها فضربَتْ خباءً .. زينبُ بنتُ جحشٍ -رضيَ اللهُ تعالَى عَنها- رأتْ هاتَيْنِ الزوجتينِ مِن زوجاتِ النبيِّ قدِ اعتكفْنَ فضربَتْ خباءً ثالثًا فلمَّا صَلَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- الفجرَ رأَى الأخبيةَ قدْ ضُرِبتْ قالَ: «أترَوْنَ البِرَّ أردْنَ»صحيحُ البخاريِّ (2045) يعني هَذا الذي فعلنَه هُو طلبٌ للبِرِّ أم أنهُ بدافعِ الغيرةِ التي تحملُ المرأةُ عَلَى منافسةِ ضرَّتِها ولو في مثلِ هَذا المجالِ، طبعًا هَذا أمرٌ خفيٌّ لكنِ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- نبَّهَ إلى أمرٍ وهُو أنَّ البعثَ قدْ لا يكونُ طاعةً ثُم إنهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- تركَ الاعتكافَ تلكَ السنةَ تركَ الاعتكافَ تلكَ السنةَ؛ لينبِّهَ إلى أنَّ الاعتكافَ الحقيقيَّ هُو عكوفُ القلبِ رغبةً فيما عندَه لا منافسةً في أمرٍ مِن أمورِ الدنيا، إنَّ الاعتكافَ الحقيقيَّ هُو ما يحصِّلُ المقصودَ لا أنْ يكونَ لهُ مصالحٌ، ومقاصدُ يدرِكُها الإنسانُ، بعضُ مَن لا يجدُ سكنًا ويجي لمكةَ يقولُ خلاص أعتكفُ لا لأنهُ راغبٌ في الاعتكافِ لكنهُ لا يجدُ سَكنًا فأقولُ لهُ حررِ النيةَ، وصححِ القصدَ، وارغَبْ فيما عندَ اللهِ، وأبشرْ بعطائِه ونوالِه -جلَّ في عُلاه- هذهِ معانٍ نحتاجُ إلى أنْ نتذكرَها بينَ يدَيْ هذهِ العبادةِ وليسَ هَذا خاصًا بالاعتكافِ كما ذكرتُ، بلْ هُو في كلِّ الأعمالِ الصالحةِ اللهُم ألهِمْنا رُشدَنا، وقِنا شرَّ أنفُسِنا أعِنا عَلَى طاعَتِك، واصرِفْ عَنا معصيتَك، اسلُكْ بِنا سبيلَ الرشادِ يا ربَّنا أعِنا عَلَى الصيامِ والقيامِ إيمانًا واحتسابًا وفِّقْنا ربَّنا إلي قيامِ ليلةِ القدرِ إيمانًا واحتسابًا اللهُم وفقْنا إلى قيامِ ليلةِ القدرِ إيمانًا واحتسابًا يا ربَّ العالَمين اللهُم يسرْها لَنا وأعِنا عَلَيها واجعَلْنا فيها مِنْ أسعدِ عبادِك بِك ومَنْ أوفَرِها حظًّا بعطائِك اللهُم هبْ لنا فيها ما تحِبُّ وترضَى مِنْ صالحِ العملِ، واقضِ لنا فيها الخيرَ، وأحسِنْ لنا فيها المنقلبَ، أعِذْنا مِن نزغاتِ الشياطينِ، واكفِنا شرَّ الفتَنِ ما ظهرَ مِنها وما بطنَ.