الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ، وأُصلِّى وأُسلِّمُ عَلَى المبعوثِ رحمةً للعالمينَ، نبيِّنا محمدٍ وعَلَى آلِه وأصحابِه، ومَنِ اتَّبعَ سُنتَه واقتفَى أثرَهُ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أمَّا بعدُ:
فقدِ استمَعْنا في هذهِ الصلاةِ إلى آياتٍ كريماتٍ مِنْ سورةِ النساءِ، وفيها قولُ الحقِّ -جلَّ وعَلا-: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّه حَدِيثًا﴾[النساءِ:41، 42] هذهِ الآيةُ، أو هاتانِ الآيتانِ الكريمتانِ فيهِما مِنَ العِبرةِ والعظةِ ما ينبَغي للمؤمنِ أنْ يقفَ عندَه، وإنْ كانَ كلُّ ما في كتابِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- مِنَ الآياتِ يحتاجُ أنْ يقفَ مَعَه الإنسانُ ليتدبَّرَه ولينتفعَ بِهِ.
فإنَّ القرآنَ العظيمَ أنزلَهُ اللهُ تعالَى هدايةً للناسِ، وليسَ بهِم غِنًى عَنْ شيءٍ مِنْ آياتِ اللهِ مَهما طالَتْ أو قصُرَتْ، فكلُّ آيةٍ في كتابِ اللهِ الناسُ إلَيها في حاجةٍ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ في صحيحَيْهِما عَنْ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ -رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ- أنهُ قالَ لهُ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- «اقرَأْ عليَّ القرآنَ» فقالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، أقرأُ القرآنَ علَيكَ وعَليكَ أُنزِلَ؟ فقالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «إني أحِبُّ أنْ أسمَعَه مِنْ غَيري» يقولُ عبدُ اللهِ: فقرَأْتُ سورةَ النساءِ حتَّى إذا بلغْتُ قولَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «كُفَّ» أو «أمسِكْ» أو «حسبُكَ»، فالتفَتُّ إلَيهِ فإذا عيناهُ تذرِفانِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ صحيحُ البخاريِّ (5050)، وصحيحُ مسلمٍ (800) .
إذا عيناهُ تذرِفانِ مِنْ ذكرِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ومما تضمَّنتْهُ هذهِ الآيةُ مِنْ موقفٍ عظيمٍ يكونُ للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في ذلكَ اليومِ.
فإنَّ اللهَ قالَ بعدَ أنْ ذكرَ تكذيبَ المُكذِّبينَ، وعنادَ المُعانِدينَ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ يشهَدُ عَلَى أُمتِه ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ عَلَى هؤلاءِ أي: عَلَى كلِّ هذهِ الأُممِ في أحدِ قولَيِ المُفسِّرينَ، فإنهُ يشهدُ عَلَى جميعِ الأممِ؛ ولذلكَ كانَتْ هذهِ الأمةُ أمةَ وسَطٍ عدْلٍ؛ لأنَّها تشهدُ عَلَى جميعِ الأممِ فما مِن نبيٍّ إلَّا ويسألُ اللهُ ـ تعالَى ـ قومَه هَلْ جاءَكم نذيرٌ، فيقولُ المكذِّبونَ ما جاءَنا مِن نذيرٍ، فيقولُ للنبيِّ الذي بُعثَ إلَيهِم: ألم أبعثْكَ إلَيهم، ألم تُنذِرْهم؟ فيقولُ: بلَى يا ربِّ، فيقولُ: مَنْ يشهدُ لكَ، فيقولُ: محمدٌ وأُمتُه، محمدٌ وأمتُه صحيحُ البخاريِّ (4487).
تشهدُ هذهِ الأمةُ لجميعِ النبيينَ بالبلاغِ عَلَى أُممِهم، وهَذا معنَى قولِه ـ تعالَى ـ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾[النساءِ:41]، فهُو شهيدٌ عَلَى كلِّ شهيدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ.
وقيلَ في معنَى الآيةِ، الآيةُ جاءَتْ تسليَةً للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- الذي واجَهَه قومُه بالتكذيبِ والعنادِ، وبالَغُوا في تكذيبِه، فاتهمُوهُ بالجنونِ، واتهموهُ بالسحْرِ، واتهموهُ بالكذِبِ، ورمَوْه بعضائلَ يعلَمونَ أنهُ منزَّهٌ عَنها -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- مَعَ هَذا لم يستجيبوا لهُ فسَلَّى اللهُ رسولَه بهذهِ الآيةِ فقالَ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ﴾[النساءِ:41]الكفارُ، كفارُ مكةَ الذينَ كذبوهُ وعانَدوهُ ﴿وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ تشهدُ عَلَيهم بأنكَ بلَّغْتَهمُ الرسالةَ، وأنكَ دَللْتَهم عَلَى الطريقِ، وأنَّهم أبَوا وكذَّبوا؛ لذلكَ ذكرَ اللهُ ـ تعالَى ـ حالَ الكفارِ بعدَها فقالَ ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾[النساءِ:41]ثُم قالَ ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾[النساءِ:42]، أي: لا يكتُمونَ اللهَ ما وقعَ مِنهُم فيَشهدونَ عَلَى أنفُسِهم بأنهُ جاءَهم رسولٌ وأنهُم كذَّبوهُ.
فالمقصودُ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- الذي أُنزِلَ عَلَيهِ القرآنُ، لم يكُنْ هَذا أولَ سماعِه لهذهِ الآيةِ بلْ هُو الذي لقَّنَها الأمةَ وعلمَها إيَّاها، وعنهُ أخذَها ابنُ مسعودٍ وغيرُه مِنَ الصحابةِ، مَعَ ذلكَ كانَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -كانَ يَبكي لسماعِ القرآنِ يَبكي لسماعِ القرآنِ لِما فيهِ مِنَ العظةِ والعبرَةِ، ولِما فيهِ مِنْ تحريكِ القلوبِ، لكِنْ هَذا لا يمكنُ أنْ يتأتَّى لمَنْ يسمعُ القرآنَ وهُو غافلٌ، ولا يمكنُ أن يتحققَ لمَنْ يقرأُ القرآنَ هذًا كهذِّ الشعرِ لا يقفُ عندَ عجائبِهِ ولا يحرِّكُ بِهِ القلوبُ، لا يمكنُ أنْ يكونَ ذلكَ إلَّا لمَنْ أحضرَ قلبَه، وتدبرَ آياتِ ربِّه، ووقفَ عندَ ما ذكرَه اللهُ وعلِمَ يقينًا أنَّ ما قالَه اللهُ سيكونُ؛ فإنَّ العبدَ إذا تيقنَ أنَّ خبرَ اللهِ وأنَّ ما ذكرَه اللهُ في محكمِ كتابِه واقعٌ، وأنهُ سيرِدُ ذلكَ المورِدَ لا بُدُّ أنْ يتحرَّكَ قلبُه ويتأثرَ، لكِنَّ الذي يقرأُ القرآنَ عَلَى أنهُ قصصٌ، خبرٌ عَنْ شيءٍ لكنَّه لم يستقِرَّ إيمانُه في قلبِه بالتأكيدِ أنهُ لن يكونَ لهذا الكلامِ لن يكونَ لهذا الكلامِ تأثيرٌ عَلَيهِ يصلحُ بهِ قلبُه، ويستقيمُ بهِ عملُه؛ ولهَذا أضرِبُ مثلًا: لو أنَّنا عندَما نقرأُ قولَ اللهِ -عزَّ وجلَّ-: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا(71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾[مريم:71،72]إذا قرأْتَ هذهِ الآيةَ موقِنًا بوقوعِها، وقدْ رسخَ في قلبِك بأنكَ ستكونُ مِنْ هؤلاءِ ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ﴾ ما مِنكم مِنْ أحدِ إلَّا وسيرِدُ هذهِ النارَ وذلكَ بالعبورِ علَى الصراطِ، وهُو جسرٌ مضروبٌ علَى متنِ جهنمَ عَلَى ظهرِ جهنمَ يمرُّ عَلَيهِ كلُّ أهلِ الإسلامِ بلا استثناءٍ حتى المُرسَلون يمرونَ علَيهِ، ولا يتكلمُ أحدٌ عَلَى الصراطِ إلَّا الأنبياءُ وكلامُهم اللهمَّ سلِّمْ سلِّم، يدعونَ بالسلامةِ لأنفسِهم ولأقوامِهم، لو تيقَّنَ الواحدُ مِنا أنهُ مارٌّ علَى هَذا الصراطِ، وأيقنَ جازمًا بذلكَ، ثِقْ تمامًا أنهُ عندَما يقرأُ هذهِ الآيةَ لن يمرَّ علَيها دونَ أن يحاسبَ نفسَه في الوصفِ الذي جعلَه اللهُ سببًا للنجاةِ، والوصفِ الذي جعلَه اللهُ سببًا للهلاكِ.
الشيخُ: الوصفُ الذي جعلَه اللهُ سببًا للنجاةِ، ما هُو؟ ها هُو يا إخواني ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا﴾[الزمر:61]هَذا وصفُ النجاةِ ، ووصفُ الهلاكِ ما هُو؟ ﴿وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا﴾[مريم:72] أي جاثينَ عَلَى رُكَبِهم، الجثوُّ: هُو القعودُ عَلَى الرُّكبِ في المكانِ.
فإذا قرأَ المؤمنُ مثلَ هذهِ الآياتِ ونظائرَها موقِنًا بها حاضرًا قلبُه وهُو يقرأُها ثِقْ تمامًا أنهُ سيكونُ لها مِنَ الوقعِ والتأثيرِ في مسلَكِه ما يتغيرُ بها حالُه؛ ولذلكَ عندَما يحضرُ القلبُ يكونُ تأثيرُ القرآنِ، وعندَما يكونُ القرآنُ في اللسانِ ويغيبُ عَنِ القلبِ فلا أثرَ لهُ ولا ثمرَ، بلْ يكونُ حجةً عَلَى صاحبِه.
ولهَذا الخوارِجُ الذينَ لهم مِنَ العبادةِ، والاجتهادِ في الطاعةِ ما وصفَه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- بقولِه: «تَحقِرونَ صلاتَكم إلى صَلاتِهم، وقراءَتَكم إلى قراءَتِهم يمرُقونَ مِنَ الإسلامِ كما يمرُقُ السهمُ مِنَ الرميَّةِ» جاءَ سببُ ذلكَ، بيانُ هَذا التخلفِ لأثرِ العبادةِ في قولِه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: «يقرَأونَ القرآنَ لا يُجاوِزُ حناجِرَهم» صحيحُ البخاريِّ (5058)، ومسلمٍ (1064) يعني لا يصِلُ إلى قلوبَهم هَذا في أحدٍ معنييِ الحديثِ، وقيلَ لا يجاوزُ حناجرَهم أي أنهُ لا يصعدُ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- فاللهُ ـ تعالَى ـ قدْ قالَ ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[فاطر:10]، وكلُّهما منطبِقٌ عَلَى معنَى قولِه -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ-: «لا يجاوزُ حناجرَهم» فهُم لا يفقَهونَ القرآنَ، ولا يعرِفونَ معانيَه، ولا يدرِكونَ أسرارَه، وليسَ عندَهم إلَّا تلاوتُه لفظًا، لكنَّ الفقهَ في معناهُ، والعلمَ بحُكمِه وأحكامِه وأسرارِه مغيبٌ عَنْ قلوبِهم ليسَ لهم فيهِ اهتمامٌ ولا شأنٌ، ولهَذا الذي قتلَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ -رضيَ اللهُ تعالى عنهُ- الشقيُّ عبدُ الرحمنِ بنِ مُلجمٍ كانَ مِنْ حفَظةِ كتابِ اللهِ لكنْ لم ينفَعْه ذلكَ؛ لأنهُ مما يندرجُ في قولِ اللهِ ـ تعالَى ـ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[الكهف: 103،104].
المقصودُ يا إخواني أنهُ عندَما نقرأُ القرآنَ أو نسمَعُه دونَ أنْ نتدبرَ معانيَه لن يكونَ لهُ أثرٌ، عندَما تنفتحُ قلوبُنا لتدبرِه سنرَى العجائبَ، وسنرَى ونفهمُ لماذا كانَ أحدُ الصحابةِ يقرأُ الآيةَ ويمرضُ حتَّى يعودَه الناسُ، حتى يعودَه الناسُ.
عُمرُ بنُ الخطابِ خرجَ مرةً فسمعُ قارئًا يقرأُ قولَ اللهِ ـ تعالى ـ: ﴿فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ﴾[المدثر: 8، 9، 10]
فمَرِضَ منها حتى عادَه الناسُ، ما السببُ هذهِ الآيةُ نسمعُها ونقرَأُها وعُمرُ أيضًا قرَأَها مراتٍ لماذا كانَ في هذه المرةِ لها هَذا الأثرُ؟ حضورُ القلبِ يفتحُ أسرارَ التأملِ والتأثرِ بالقرآنِ؛ ولذلكَ إذا قلتَ واللهِ أنا أسمعُ القرآنَ، وأقرأُ القرآنَ لكنْ لا أجدُ لهُ أثرًا عَلَى قلبي، فتِّشْ في تدبرِك، فتشْ في فَهمِك لكلامِ اللهِ، إذا كنتَ حاضرَ القلبِ فثِقْ تمامًا أنكَ ستوفَّقُ للتأثرِ بالقرآنِ، أما إذا كنتَ غائبَ القلبِ فلن ينفَعَك.
يا أخي يعنِي نحنُ أحيانًا نقرأُ بعضَ الأخبارِ ونظنُّها ضرْبًا مِنَ الخيالِ لا لأنها ضرْبٌ مِنَ الخيالِ هيَ واقعٌ لكِنْ مَن جَهِلَ شيئًا عاداهُ، ومَن لم يذُقْ طعمَ الشيءَ أنكَرَه.
يقولُ فيما نقلَ الذهبيُّ في سيَرِ أعلامِ النُّبلاءِ، عَنْ خبرٍ في سيرةِ عُمرَ بنِ عبدِ العزيزِ -رحمَهُ اللهُ- وهُو مِن أهلِ العلمِ الأفاضلِ، وعدَّه بعضُ أهلِ العلمِ خامسَ الخلَفاءِ الراشدينَ؛ لعَدلِه وإقامةِ السُّنةِ في زمانِه بعدَ أنْ غُيِّبَتْ قبلَ ذلِكَ.
يقولُ -رَحِمَهُ اللهُ- في سياقِ الخبرِ: أنَّ رجلًا دخلَ إلى مسجدٍ في دمشقَ زمنَ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فوقفَ يصلِّي ورجلٌ يرقُبُه، المحدِّثُ هُو مَن كانَ يرقبُ الموقفَ في المسجدِ، يقولُ: (دخلَ رجلٌ فوقفَ فكبرَ ثُم قرأَ الفاتحةَ ثُم افتتحَ سورةَ الواقعةِ ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ(1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾[الواقعةِ:3].
يقولُ: فعندَما قرأَ ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾[الواقعة:3]أخذَ يُردِّدُها حتى أوشكَ الفجرُ أنْ يطلُعَ وهُو يردِّدُ قولَه ـ تعالَى ـ: ﴿خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ﴾[الواقعة:3]ويَبكي.
ما السرُّ في هَذا؟ السرُّ حضورُ القلبِ، عندَما حضرَ قلبُه أنَّ في ذلكَ اليومِ قومٌ يُرفَعون وقومٌ يُخفَضون، تأثَّرَ لذلكَ وردَّدَها مذكِّرًا، ومؤكدًا لمَعناها، ومُتأثِّرًا بما فيها مِنَ المَعنَى لا يَدري أهُو ممنْ يُرفَعُ أو ممنْ يُخفَضُ.
لذلكَ يا إخواني مِنَ المُهمِّ أنْ تقفَ عندَ آياتِ الكتابِ، وأنْ تقفَ عندَ الآياتِ التي تجدُ لها في قلبِكَ أثرًا، وافرَحْ إذا وجدْتَ لشيءٍ مِن كتابِ اللهِ تعالَى في قلبِك أثرًا؛ فإنَّ ذلكَ دليلُ الحياةِ فزِدْ هذهِ الحياةَ بمزيدٍ مِنَ التدبرِ، وتأمُّلٍ لآياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
بعضُ مَن عُرِفوا بالصلاحِ والاستقامةِ، والهُدَى كانَتْ بدايتُهم في الهدايةِ آيةً سمِعَها مِن كتابِ اللهِ وَقعَتْ في قلبِه فأثرَتْ فيهِ.
يحدثُني رجلٌ أمريكيٌّ مِنْ طلابِ شيخِنا ابنِ عُثيمين -رَحِمَه اللهُ-سألتُه وكانَ رجلًا نشيطًا حريصًا علَى تلقِّي العلمِ، فسألتُه كيفَ أسلمْتَ؟ قالَ: أنا وُلدتُ مِن أبٍ وأمٍ مِنَ النصارَى، كلُّهم عَلَى دينِ النصرانيةِ، ولا علمَ لي بالإسلامِ ولا معرفةٍ ولا أيِّ احتكاكٍ، لي صاحبٌ أمريكي يقولُ مِنْ جنسيتِه معَه كانَ مُسلِمًا فمرةً مِنَ المراتِ، قالَ لي خُذْ هَذا الكتابَ في وقتِ فراغِكَ اطلِعْ فيهِ، هَذا الكتابُ هُو القرآنُ مترجمًا باللغةِ الإنجليزيةِ، هُو واللهِ يا أخواني يحدثُني ليسَ بيني وبينَه واسطةٌ، يقولُ فكنتُ أضعُه في غُرفتي، ولا آبهُ بهِ لا أهتمُّ لهُ لكني بينَ فترةٍ وأخرَى إذا ما صارَ عِندي شغلٌ ولا عندي اهتمامٌ بعملٍ أو ما إلى ذلكَ، فتحتُ الكتابَ واطَّلعْتُ فيهِ لكني كنتُ ألاحِظُ، طبعًا هَذا ليسَ القرآنَ باللسانِ العربيِّ هَذا ترجمَةُ القرآنِ، يقولُ فكنتُ ألاحِظُ أنهُ إذا فتحتُ القرآنَ وقرأتُ لا أستطيعُ أنْ أُتمَّه كأنَّ شيئًا يضربُني عَلَى وَجهي، أُغلِقُ المصحفَ وأطلعُ مباشرةً إلى الصالةِ حتَّى أتلهَّى عَنْ أثرِ المعاني التي قرأتُها يبحثُ عمَّنْ يشغلُه عَنْ أثرِ ما وجدَه في نفسِه مِن هَذا الكلامِ الذي قرأَه، يقولُ حتى أقضيَ وقتًا وأتمشَّى مَعَ أهلي وأجلسُ معَهم، فيزولُ هَذا الأثرُ، فأعودُ ثُم عُدتُ وفتحتُ وجدتُ شيئًا عندَما أقرأُ أيَّ تفسيرٍ لكلامِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- أجدُ كما لو ضُرِبَتْ في وَجهي، فأقومُ مرةً ثانيةً فعجِبْتُ مِنْ هَذا الأثرِ فسألتُ هَذا الصاحبَ عَنِ الإسلامِ حتى بدأَ لي ميلٌ إلى هَذا الدينِ، فشرحَ اللهُ صدري لهُ وأقبلْتُ عَلَى الإسلامِ وأسلمْتُ، ثُم بعدَ ذلكَ جئتُ أطلبُ العلمَ عندَ الشيخِ -رَحِمَه اللهُ- عندَ شيخِنا ابنِ عُثيمين.
المَقصودُ أنَّ القرآنَ، هذهِ ترجمةٌ، لكِنْ متَى يؤثِّرُ عندَما يقرأَهُ الإنسانُ بتعقُّلٍ؛ لهَذا اللهُ -عزَّ وجلَّ- ماذا يقولُ عائبًا عَلَى المشرِكينَ؟ ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾[محمدٍ:24] قُفلٌ كما لو تقفِلُ شنطتَك أو بابَك أو سيارتَك، هُناك أقفالٌ عَلَى القلوبِ تمنعُ مِنَ التأثرِ بهِ، أعظمُ قُفلٍ يَقفِلُ قلبَك هُو أنكَ لا تتدبرُ القرآنَ، عندَما تزيلُ هَذا القفلَ سينفتحُ لكَ مِن أبوابِ العلمِ والمعرفةِ والخيرِ ما ليسَ لكَ عَلَى بالٍ ولا حسابٍ.
ولهَذا وصيَّتي لنفسِي وإخواني، أنْ نفرحَ عندَما نجِدُ أثرًا للقرآنِ في قلوبِناوأنْ نكرِّرَ القراءةَ للآيةِ التي تأثَّرْنا بها، وأن نسألَ اللهَ بركتَها، وأنْ نحرصَ عَلَى إذا مرَّ بِنا آيةٌ أو قرَأْناها، إذا مرَّتْ بنا آيةٌ قراءةً أو سماعًا أنْ نتدبرَ معانيَها، والتدبرُ ليسَ أمرًا صعْبًا أو عسيرًا، ما دمتُ تفهمُ كلامَ العربِ فثِقْ تمامًا أنهُ سيَأتي مِنَ الآياتِ ما تفهَمُه، وتستطيعُ أنْ تتدبَّرَه وتنتفعَ بهِ؛ فلذلكَ وصيتي لنفسي وإخواني ونحنُ نسمعُ القرآنَ في الليلةِ نسمعُ جُزأيْنِ في صلاةِ القيامِ جزءٌ، وفي صلاةِ التراويحِ جزءٌ، غيرُ الصلواتِ الأخرَى التي يقرأُ الأئمةَ فيها، غيرَ ما نقرأَه نحنُ مَعَ أنفسِنا.
يا أخي هَذا الكمُّ الكبيرُّ الذي نقرأَه مِن كلامِ اللهِ، ونسمَعُه أينَ أثرُه في استقامتِنا، في أخلاقِنا، في زيادةِ إيمانِنا، في إخباتِنا، في تَقوانا في صلتِنا باللهِ، كلُّ هذا لا بُدَّ أنْ نبحثَ عَنهُ ولن نجدَها إلا إذا كانَ القلبُ حاضرًا، القلبُ متدبِّرًا، القلبُ واعيًا لتلكَ المَعاني.
أسألُ اللهَ العظيمَ، ربَّ العرشِ الكريمِ أنْ يجعلَنا مِنْ أهلِ القرآنِ الذينَ هُم أهلُه وخاصتُه، وأنْ يفتحَ قلوبَنا عَلَى تدبُّرِه، وأنْ يفتحَ لنا أسرارَه، وأنْ يفتحَ لنا فتوحَ العارفينَ في فهمِ كتابِه والعملِ بهِ والدعوةِ إلَيهِ إنهُ جوادٌ كريمٌ.