الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأُصلِّي وأسلِّمُ علَى المبعوثِ رحمةً للعالمينَ نبيِّنا محمدٍ وعلَى آلِه وأصحابِه أجمعينَ، أمَّا بعدُ:
فهذهِ الأيامُ -أيامُ العشرِ- هيَ خيرُ أيامِ الزمانِ، وخيرُها وأفضلُها آخرُها وهوَ يومُ عرفةَ، ويومُ النحرِ، فإنَّ أهلَ العلمِ اختَلَفوا في أيِّهما أفضلُ، هلْ هوَ يومُ عرفةَ أو يومُ النحرِ؟ على قولَيْنِ لأهلِ العلمِ، وفي كلِّ الأحوالِ في كلِّ يومٍ مِن هذَيْنِ اليومَينِ فضلٌ عظيمٌ.
يومُ عرفةَ مِن فضلِه أنهُ: اليومُ الذي يُعتِقُ اللهُ تعالى فيهِ عبادًا كثيرًا مِنَ النارِ، فهوَ يومُ العِتْقِ والمغفرةِ، وهَذا ليسَ خاصًّا بالحجاجِ؛ بلْ هوَ عامٌّ لأهلِ الإسلامِ في كلِّ مكانٍ، جاءَ في الصحيحِ مِن حديثِ عائشةَ -رضِيَ اللهُ عنْها- أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «ما مِن يومٍ أكثرَ مِنْ أنْ يُعتِقَ اللهُ تعالَى فيهِ عبدًا مِنَ النارِ مِن يومِ عرفةَ»، وهذا ليسَ فيهِ تخصيصٌ لأهلِ عرفةَ الذينَ فيها؛ بلْ هوَ لكلِّ أهلِ الإسلامِ في كلِّ مكانٍ، وذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيهِ مَن يشاءُ؛ فينبَغي للمؤمنِ أنْ يعرفَ قدْرَ هذا اليومِ فهوَ يومٌ عظيمٌ، يومُ حطِّ الذنوبِ والخَطايا، والعتقِ مِنَ النارِ، وأهلُ الحجِّ يعمَلون فيهِ ما يعملونَ مِنَ الأعمالِ والقرُباتِ، وسائرُ المسلمينَ في بقيةِ الأمصارِ يتقرَّبونَ إلى اللهِ تعالى فيهِ بصالحِ العملِ مِنَ التكبيرِ، والتحميدِ، والتهليلِ، وكذلكَ الصومُ، فإنهُ جاءَ في صحيحِ الإمامِ مسلمٍ مِن حديثِ أبي قتادةَ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ:«صيامُ يومِ عرفةَ أحتسِبُ على اللهِ أنْ يكفِّرَ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه»، وهَذا فضلٌ نادرٌ مِن جهةِ أنَّ اللهَ تعالى أعطَى للصائِمينَ في هذا اليومِ كفارةَ سنةٍ مضتْ وسنةٍ مستقبلةٍ، والتكفيرُ هُنا هوَ حطُّ الذنوبِ والخَطايا وعفوُها والمغفرةُ عنْها والتجاوزُ والصفحُ والمحوُ، وهَذا يشملُ ذنوبَ العبدِ؛ الصغائرَ والكبائرَ في قولٍ؛ وقالَ جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ: إنهُ خاصٌّ بالصغائرِ وفضلُ اللهِ واسعٌ؛ فالذي يُعتَقُ مِنَ النارِ يُغفَرُ لهُ الصغيرُ والكبيرُ، ففضلُ اللهِ -جلَّ في عُلاه- على العبادِ في صومِ هذا اليومِ عظيمٌ، فإنهُ يُكَفِّرُ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه.
أما السَّنَةُ المستقبلةُ فكفارةُ الذنوبِ فيها أنَّ اللهَ تعالى يعصِمُ العبدَ مِنَ الخَطايا، أنْ يرحمَه، أنْ يعطيَه ثوابًا يكفرُ ما يكونُ مِنَ الخطإِ، أنْ يكونَ ما يقعُ مِنَ الخطإِ مغفورًا، هذهِ أربعةُ أوجهٍ فيما ذكرَه العلماءُ في معنَى أنهُ يكفرُ السنةَ المستقبلةَ.
وهَذا الفضلُ يحصُلُ لمَن صامَ هَذا اليومَ بنيةِ التقربِ إلى اللهِ تعالى لإدراكِ هذهِ الفضيلةِ تطوُّعًا، سواءٌ كانَ ذلكَ في حالِ سفرٍ أو في حالِ إقامةٍ، مِن صغيرٍ أو كبيرٍ، مِنْ ذكرٍ أو أنثَى، فقولُ النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- :«صيامُ يومِ عرفةَ أحتسبُ على اللهِ» أي: أرجو مِنَ اللهِ، وهَذا الاحتسابُ هوَ إثباتٌ لهذا الفضلِ، ورجاءٌ وطمعٌ في إدراكِ هذا الفضلِ، «أنْ يكفرَ السنةَ التي قبلَه والسنةَ التي بعدَه»، فمَن صامَه تطوعًا أدرَكَ هذهِ الفضيلةَ بإذنِ اللهِ تعالَى، وكذلكَ يدركُ الفضيلةَ مَن صامَه بنيةِ القضاءِ على قولِ بعضِ أهلِ العلمِ، فإنهُ مَن كانَ عليهِ قضاءٌ وصامَ يومَ عرفةَ بنيةِ القضاءِ وإدراكِ الفضيلةِ المرتبةِ على صيامِه فإنهُ يدرِكُه، قالَ بذلكَ جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ ومنهُم شيخُنا محمدٌ العثيمينُ –رحِمَه اللهُ- فمَن كانَ عَلَيهِ قضاءٌ وصامَ هَذا اليومَ بنيةِ القضاءِ، وبنيةِ احتسابِ الأجرِ المرتبِ على صيامِه؛ فإنهُ يدرِكُه بفضلِ اللهِ.
ولكِنَّ المحققَ في إدراكِ الفضلِ بالاتفاقِ بينَ أهلِ العلمِ هوَ مَن صامَه تطوعًا، وأمَّا مَن صامَه بنيةِ القضاءِ معَ احتسابِ الأجرِ المذكورِ في الحديثِ ففيهِ خلافٌ، مِن أهلِ العلمِ مَن يقولُ: "لا يحصلُ لهُ"، ومنهُم مَن يقولُ: "أنهُ يحصلُ لهُ"، والأقربُ أنهُ يحصلُ لهُ؛ لأنَّ المقصودَ صيامُ هذا اليومِ، سواءٌ صامَه تطوعًا، أو صامَه بنيةِ القضاءِ، أو صامَه بنيةِ القضاءِ والتقربِ إلى اللهِ بصيامِ هذا اليومِ، كلُّ ذلكَ يدركُ بهِ الفضيلةَ بإذنِ اللهِ تعالَى، وقدْ قالَ بذلكَ جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ على اختلافِ مذاهبهِم، ورجَّحَ ذلكَ شيخُنا ابنُ عُثيمين رحِمَه اللهُ، وكذلكَ يُفهَمُ مِن كلامِ شيخِنا عبدِ العزيزِ بن بازٍ رحِمَ اللهُ الجميعَ.
إذًا: العملُ الذي يتقربُ بهِ العبدُ إلى اللهِ تعالى في هَذا اليومِ هوَ الصومُ، إضافةً إلى التكبيرِ فإنهُ يبتدِأُ في فجرِ يومِ عرفةَ بالتكبيرِ المقيدِ معَ التكبيرِ المطلقِ الذي يشتغلُ بهِ الناسُ الآنَ وهوَ قولُ: «اللهُ أكبرُ، الله أكبر، الله أكبرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ،الله أكبر، وللهِ الحمدُ» فهذهِ أعمالٌ صالحةٌ جليلةٌ قدْ يستقلُّها الإنسانُ ويرَى أنها ليسَتْ بذاتِ بالٍ، لكِنَّ المؤمنَ يعرفُ أنَّ تعظيمَه ما عظَّمَه اللهُ فقطْ هوَ سببٌ لحصولِ الأجرِ ولو لم يعملْ؛ لأنَّ تعظيمَ شعائرِ اللهِ هوَ مِنْ تقوَى القلوبِ كما قالَ جلَّ وعلا: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحجِّ:32، ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ الحجِّ:30 خيرٌ لهُ في دنياهُ وخيرٌ لهُ في أُخراه، فينبَغي لنا أنْ نحرصَ على هذهِ الفضائلِ المتاحةِ والأعمالِ الجليلةِ القريبةِ اليسيرةِ التي بها يدركُ الإنسانُ هذهِ الفضائلَ بمجهودٍ قليلٍ.
أسألُ اللهَ العظيمَ ربِّ العرشِ الكريمِ أنْ يرزقَني وإياكُم العملَ الصالحَ، وأنْ يوفقَنا إلى صيامِ هذا اليومِ إيمانًا واحتسابًا، وأنْ يكتبَ لنا وإياكُم أجرَه وفضلَه، وصلَّى اللهُم وسلمَ عَلَى نبيِّنا محمدٍ.