﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ﴾فاطر:1 لَهُ الحمدُ كُله أولهُ وآخره، ظاهره وباطنهُ، في السرِّ وَالإِعْلانِ، بِالقَوْلِ، بِاللسانِ، وَالجنانِ، فَهُوَ المحمودُ عَلَى كُلِّ حالٍ، أحْمدُهُ لا أُحْصِي ثَناءً عليْهِ هُوَ كَما أَثْنى عَلَى نَفْسِهِ، وأَشْهدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، رَبٌّ عَظيمٌ، كَريمٌ، تعرَّضَ لِعبادِهِ بِالإِحْسانِ، وأَمَدَّهُمْ بِأَنْواعِ النِّعَمِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوابَ العَطاءِ، فَلَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ، وَأَشْهدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، بَعَثهُ اللهُ عَلَى حِينِ فَتْرةٍ مِنِ الرُّسُلِ، وَانْقِطاعٍ مِنَ الهِداياتِ، وَانْطِماسٍ مِنَ السُّبُلِ، فأَخْرجَ اللهُ تَعالَى بِهِ البَشَرِيِّةِ منَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَهَداهُمْ سُبُلَ السَّلامِ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ العَمَى إِلَى الإبصارِ، فَصَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتهُ، وَاقْتَفَى أثَرَهُ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بعْد:
فالسَّلامُ عليكُمْ وَرحمَةُ اللهِ وَبركاتُهُ.. أَهْلاً وَسَهْلاً ومَرْحَباً بِكُمْ أَيُّها الإِخْوةُ والأَخَواتُ .. في هَذِهِ الحلَقَةِ مِنْ بَرْنامجكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ غافر:60 سنتحدثُ عَنِ الوَعِيدِ، الَّذي تَوعَّدَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ مِنْ تركَ دُعاءَهُ، فَإِنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ أَمرَ بِدُعاءِهِ، وبيَّنَ الوَعْدَ المُرَتَّبِ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ، فَقالَ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ غافر:60 فأَمرَ بِالدُّعاءِ، ووَعَدَ بِالإجابَةِ، وَتَوعَّدَ مِنْ تركَ عِبادِتهِ بِالوَيْلِ، وَالثُبُورِ، وَالعَذابِ الأَلِيمِ، فَقالَ ـ جلَّ وَعَلا ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ غافر:60 قوْلُ الحقِّ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾،﴿يستكبرون﴾: أيْ يَأْنَفُونَ، وَيَتَعالُونَ، وَيَنْصَرِفُونَ عِنْ عِبادَتِهِ، سَواءً كانَ ذلِكَ بِتَرْكِ ما أَمرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ مِنَ الواجِباتِ، أَوْ بِتَرْكِ امْتِثالِ ما نَهَى اللهُ ـ تَعالَى ـ عنْهُ، بِالتورُّطِ في المحرَّماتِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَرْكٌ لما أَمرَ بِهِ مِنْ دُعاءِهِ، في دُعاءِ العِبادِةِ، فَإِنَّ العَبْدَ مَأْمُورٌ بِالصَّلاةِ عَلَى سَبيلِ المثالِ، فَإِذا امْتَثَلَ ذَلِكَ كانَ مُحقِقاً الله لما أمرَ اللهُ: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي﴾ دَعا اللهَ بِامْتِثالِهِ الصَّلاةَ، دَعا اللهَ بِامْتِثالِهِ في أَداءِ الزَّكاةِ، دَعا اللهَ بِامْتثالِهِ في صَوْمِ رَمَضانَ، دَعا اللهَ بِامْتِثالِهِ في حَجِّ البيتِ، دَعا اللهَ بِامْتِثالهِ في بِرِّ الوالِدَيْنِ، دَعا اللهَ بِامْتِثالِهِ في صِلَةِ الأَرْحامِ، دَعا اللهَ بِامْتِثالِ أَمْرِهِ في صِدْقِ الحَدِيثِ، دَعا اللهِ بِامْتِثالِ أَمْرِهِ في أَداءِ الأَماناتِ، دَعا اللهَ بِامْتِثالِ أَمْرِهِ في بِرِّ الجارِ، وَالإِحْسانِ إِلَيْهِ، كُلُّ هَؤُلاءِ إِذا امْتَثَلُوا أَمْرَ اللهِ فَحَقُّهُمْ الإجابةُ.
لكِنْ لَوْ تَرَكَ الصَّلاةَ، فَإِنَّهُ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبادَةِ اللهِ، لَوِ امْتَنَعَ عَنْ أَداءِ الزَّكاةِ، امْتَنَعَ عَنِ الصَّلاةِ، عَنِ الصَّوْمِ، امْتَنَعَ عَنِ الحجِّ، أَساءَ إِلَى وَالِدَيْهِ، لمْ يَصِلْ أَرْحامَهُ، لمْ يَصْدُقْ في حَدِيثِهِ، كُلُّ هَذا وَقَعَ فِيهِ الإِنْسانُ في الاسْتِكْبارِ عَنْ عِبادَتِهِ، الاسْتِكْبارِ عَنْ دُعاءِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾ فَيَأْنَفُونَ عَنْها، وَذِكْرُ الاسْتِكْبارِ لَيْسَ حَصْراَ لِلأَسْبابِ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الأَسْبابِ قُبْحاً، وَأَشْرُّها صُورةً، وَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ أَسْبابِ تَرْكِ عِبادَةِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ توَعَّدَهُمْ اللهُ بِعُقُوبَتَيْنِ:
العُقُوبَةُ الأُولَى: عُقُوبَةٌ حِسيَّةٌ.
العُقُوبَةُ الثَّانِيَةُ: عُقُوبَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ.
العُقُوبَةُ الحِسيَّةُ: دُخُولُ النَّارِ، نَسْأَلُ اللهَ النَّجاةَ مِنْها، قُولُوا: "اللَّهُمَّ أْجُرْني مِنَ النَّارِ، اللهُمَّ أَجِرْني مِنَ النَّارِ، اللهُمَّ أَجِرْني مِنَ النَّارِ" قُولُوا ذَلِكَ، وَاحْرِصُوا عَلَى سُؤالِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ النَّجاةَ مِنَ النَّارِ، فَإِنَّها الدَّارُ الَّتي أَعَدَّ اللهُ ـ تَعالَى ـ فِيها مِنَ العَذابِ لمَنْ عَصاهُ، ما لا يُدْرِكُهُ عَقْلٌ، وَلا يَبْلُغُهُ وَصْفٌ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلامَةَ مِنْها، إِنَّما هُوَ بَيان لِبَعْضِ أَوْصافِ العَذابِ، وَإِلَّا الأَمْرُ أَعْظَمُ، كَما أَنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ أعْظَمُ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَكَذَلِكَ عَذابُ النَّارِ عَلَى هَذا النَّحْوِ، الَّذي يُدْرِكُ فِيهِ النَّاسُ المعاني إِجْمالاً، لَكِنْ ما رَأَى كَمَنْ سَمِعَ، وَلا ذَائِقٌ كَمَنْ قُصَّ عَلَيْهِ خبٌر، أَوْ حتَّى رَأَى، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ، أَنْ يَسْأَلَ اللهَ الاسْتِعاذَةَ مِنَ النارِ، المقْصُودُ أَنَّ المؤْمِنَ إِذا حَقَّقَ، ما أَمَرَ اللهُ تَعالَى بِهِ سَلِمَ مِنْ هَذِهِ العُقُوبَةِ، مِنْ دُخُولِ بِالنَّارِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ﴾ هَذا النَّوْع الأَوَّلُ مِنْ العُقُوبَةِ.
﴿داخِرينَ﴾ وَهَذا النَّوْعُ الثَّاني مِنَ العُقُوبَةِ، وَهِيَ عقُوبَةٌ مَعْنَوَيَةٌ، وَهُوَ الذُّلُّ، والصِّغارُ، لأَنَّ هَؤُلاءِ اسْتَكْبَرُوا عَنْ عِبادَتِهِ: ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ الطلاق:9 كانَ عاقِبَةُ أَمْرِهِمْ بَواراً، كانَ عاقِبَةُ أَمْرِهِمْ هالِكا، فَمَنْ تَرَكَ الدُّعاءَ هَلَكَ، مِنْ تَرْكِ العِبادَةِ خُسْرٌ، مَنْ تَرَكَ طاعَةَ اللهِ ـ تَعالَى ـ فَهُوَ في ضَلالٍ مُبِينٍ فالفَوْزُ كُلُّ الفَوْزِ في طاعَةِ اللهِ، يَقُولُ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ آل عمران:185 وَيَقُولُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ الزمر:61 وَهُنا أَيْضاً ذَكرَ اللهَ ـ تَعالَى ـ العُقُوبَتَيْنِ: العُقُوبَة الحسيَّةِ، والعقُوبةَ المعْنَوِيَّةَ، لا يَظُنُّ ضالٌّ أنَّ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ فَقَطْ عَلَى الأَبْدانِ دُونَ الأَرْواحِ، عَلَى الحِسِّ دُونَ المعْنَى، بَلِ العُقُوبَةُ مُقْتَرِنَةٌ عَلَى وَجْهٍ كاملٍ للأبْدانِ، وَالأَرْواحِ، لِلحِسِّيِّ، وَالمعْنَى.
لذلكَ كانَ عُقُوبةٌ مِنْ اسْتكبرَ، عَنْ دُعاءِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ ما ذَكَرَ من هاتين العقوبتين، إذاً قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾يدخل فيه كُلُّ منْ ترَكَ طاعةَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ كُلُّ مَنْ تَرَكَ عِبادَتَهُ ـ جلَّ في عُلاهُ ـ في شَأْنِ مِمَّا أَمَرَ، أَوْ كُلُّ مَنْ تَوَرَّطَ في مَعْصيتِهِ، فكُلُّ مَنْ تورَّطَ في مَعْصِيَتِهِ لمْ يَدْعُوا، لِذَلِكَ قِيلَ لِسُفْيانَ الثوريِّ: "أَلا تَدْعُو" أَيْ أَتَدْعُو اللهَ ـ عزَّ وجَلَّ ـ بِالسؤالِ وَالطلبِ، قالَ: "تركُ الذُّنوبِ دُعاء" وهَذا مِنَ فِقْههِ – رَحِمهُ اللهُ – فإنَّهُ يُشيرُ إِلَى العِبادَةِ في الدُّعاءِ، وَهُوَ النَّوْعُ الأَوْسَعُ، وَالأَشْملُ مِنْ نَوْعَيِ الدُّعاءِ.
أَمّا النوعُ الثَّاني: وَهُوَ دُعاءُ المسأَلَةِ، فَهُوَ داخِلُ أَيْضاً، فَإِنَّهُ مَنْ تَرَكَ دُعاءَ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ اسْتَكْبرَ عَنْ عِبادَتِهِ، وَكانَ ذلكَ مُوجِباً لهالِكِهِ، وَلا يُمْكِنُ لأَحَدٍ أنْ يَغْتَنِيَ عنْ سُؤالِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ مَهْما بَلَغَ فِإِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ، إِمَّا بِلِسانِهِ، أَوْ بحالِهِ، فَلا بُدَّ مِنْ سُؤالِ اللهِ، وَلِذَلِكَ حَفِظَ اللهُ ـ تَعالَى ـ في كِتابِهِ، مِنْ أَدْعِيَةِ النَّبيينَ، وَالمرْسَلِينَ، ما يُبيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ في أَحَدٍ عنَّا عَنْ سُؤالِ اللهِ، وَعَنْ طَلَبِهِ، وَعَنْ إِنْزالِ الحاجَةِ بِهِ فَهُوَ الصَّمَدُ ـ جلَّ في عُلاهُ ـ حَتَّى أُولَئِكَ الَّذينَ يَجْحَدُونَ اللهَ، ويستكبِرُونَ، إِذا نزلَتْ بهمُ المصائبُ، وحلَّتْ بِهِمُ الكُرُوبُ، وَجاءَتْ إِلَيْهِمُ النوائِبُ، لم يَمْلِكُوا إِلَّا أَنْ يَلْجَؤُو إِلَى اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ لم يَمْلِكُوا إِلَّا أَنْ يَسْأَلَوا اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ فَلذلكَ ليسَ ثمةَ أَحَدٌ مُسْتَغْنٍ عنْ سُؤالِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ قَدْ يُخْطِئُ بعْضُ النَّاسِ، وَيَسْأَلُ غَيْرَ اللهِ، لكِنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ، فَإِذا سَأَلَ غَيْرَ اللهِ كانَ أيْضاً مُخالِفاً لما أَمَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ، مِنْ دُعاءِهِ لأنَّهُ دَعا غَيْرَهُ، وَهُوَ بِهذا قَدْ تَوَرَّطَ في نَوْعٍ مِنَ الضَّلالِ، وَسَلَكَ سَبِيلاً مِنْ سُبلِ الغِوايَةِ، وَالزلَلِ، وَالانْحِرافِ، قالَ اللهُ ـ تعالَى ـ: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ الأحقاف:5-6 سمّاها اللهُ ـ تعالى ـ عبادة، لأنها صُرفت لغيره جلّ في علاه، فدعاءُ غيره هو تعبّدٌ لغيره.
لذلك من المهم للمؤمن أن يعرف، أنَّ تركَ دعاء المسألة هلاك، كما أنَّ تركَ دعاء العبادة هلاك، لكن ترك دعاء المسألة لهُ صورتان:
الصورة الأولى: إمّا أن لا يدعوا بالكلية، وهذا هلاك، لأنهُ لا بُدّ للإنسان أن يدعوا، ما من أحدٍ إلاّ لا بُدَّ أن يدعوا، فالدعاء فرض واجب على كُل مسلم، ومسلمة، ولذلك جعلهُ اللهُ ـ تعالى ـ فرضاً على كُلِ مؤمن، ففرضَ عليه، أن يسألهُ الهداية إلى الصراط المستقيم، وذلك في سورة الفاتحة، التي لا تصحُ صلاةٌ إلا بها، والصلاة فرض على كُلِ مسلم ذكر، أو أنثى، قال اللهُ ـ جلّ وعلا ـ: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ الفاتحة:6 فمن تركَ دعاءَ اللهِ هلك، من تركَ سؤال اللهِ هلك، من ترك عبادةَ اللهِ هلك، وبهذا يتبيّن بجلاءٍ، ووضوح، أنَّ ترك العبادةِ هلاك، ترك السؤالِ هلاك، ترك الدعاءِ في كُلِ صورهِ هلاك، والتأمّل في القرآن الحكيم، وما ذكرهُ اللهُ ـ تعالى ـ في مُحكمِ التنزيل، يُبيّن كيفَ أنَّ أُمم، وأفراداً قدْ هَلَكُوا بِسببِ الخرُوجِ عَنِ الطاعَةِ، والعِبادةِ، وَالهَلاكِ هُنا لا يَتخذُ صُورَةً واحِدَةً، قَدْ يَكُونُ بِالعُقُوباتِ، وَما يُنْزِلهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ مِنَ السَّخِطِ، قَدْ يَكُونُ بِالإمْلاءِ لِلظالمينَ، فَإِنَّ الامْلاءَ لِلظَّالمِ، هُوَ اغالٌ في سَبَبِ الهلاكِ، وَاسْتِدْراجٌ لاستحكامِ العُقُوبَةِ علَيْهِ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾ آل عمران:178 فَما يُمليهِ اللهُ ـ تَعالَى ـ لِلكافِرِ مِنْ تَمكِينٍ، أَوْ مَدَدٍ، أَوْ عَطاءٍ، فَهُوَ لَيْسَ خَيْراً لَهُ، بَلْ هُوَ لإِقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَلاسْتِحكامِ العُقُوبَةِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ تَركَ الدُّعاءَ فِإنَّهُ هالِكٌ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ واللهُ ـ تَعالَى ـ يَقُولُ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ الشورى:30 ،﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ النساء:79 أَيْ بسببِ ما كسبتْهُ يَداكَ، لذلِكَ لِنَعْلَمَ أَنَّ الخُروجَ عَنِ العُبُودِيَّةِ، الخُروجُ عَنِ الطَّاعَةِ، الوُقُوعُ في المعصيَةِ، تَرْكُ سُؤالِ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ تَرْكُ دُعاءِهِ هُوَ مِنْ مُوجِباتِ هَلاكِهِ، وَبَوارِهِ، وَضَياعِ صَلاحِهِ، لهذا كُنْ عَلَى حَذَرٍ، وكُوني عَلَى حذرٍ في أنْ تَستَجِيبَ لما أَمَركَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ مِنْ دُعاءِهِ عِبادَةٌ بإقامَةِ الشَّرائِعِ، وَتَرْكِ المحرَّماتِ مِنْ عِبادَتِهِ، بِسُؤالِهِ، وَإِنْزالِ الحاجاتِ بِهِ، وأمِّلْ مِنْ رَبِّكَ العَطاءَ، فَقَدْ قالَ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ إِذا لمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْكَ، لمْ تُحَقِّقْ العُبودِيَّةَ للهِ، ولمْ تَسألِ اللهَ فاحْذَرْ مِنْ أَخْذَتِهِ، وَعُقُوباتِهِ، كَما قالَ ـ جَلَّ وَعَلا ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ أذَلِّاءَ صاغِرينَ، مُحتَقِرينَ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسْلِمَني، وَإِيَّاكُمْ مِنَ النَّارِ، اللهُمَّ أَجِرْنا مِنَ النَّارِ، وَاجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ، ممنْ حَقَّقَ لَكَ العِبادَةَ عَلَى ما تُحبُّ وَترْضَى، إِلَى أَنْ نَلْقاكُمْ في حَلْقةٍ قادِمَةٍ مِنْ بَرْنامِجِكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أَسْتَوْدِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لا تَضِيعُ ودائِعِهُ، وَالسَّلامُ عَليكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ.