السلامُ عليْكُمْ وَرحمةُ اللهِ وَبركاتهُ، الحمْدُ للهِ حَمْداً كثيراً طيِّباً مُباركاً فِيهِ، كَما يحُبُّ ربُّنا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لَْهُ الحَمْدُ كُلُّه، أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ، ظاهِرُهُ وَباطِنُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، بَعَثَ مُحَمَّداً بِالهُدَى، وَدِينِ الحقِّ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُاللِه وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ، وَخَلِيلُهُ، خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمّا بَعْدُ:
فأَهْلاً وَسَهْلاً وَمَرْحباً بِكُمْ أَيُّها الإِخْوَةُ وَالأَخَواتُ .. في هَذِهِ الحَلْقةِ الجَدِيدَةِ مِنْ بَرْنامجكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ غافر:60 إِنَّ اللهَ ـ تَعالَى ـ بَعَثَ محمَّداً ﷺ لأَكْمَلِ الشرائعِ، وأكمَلِ الأَدْيانِ، بَلْ دِينٌ رَضِيَهُ ـ جلَّ في عُلاهُ ـ وأَعْلَنَ رِضاهُ عَنْهُ، عِنْدما تَمَّ، وكَمُلَ، فَقالَ ـ جَلَّ وعَلا ـ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ المائدة:3 فكمَّلَ اللهُ تعالى لنبيِّنا محمَّدٍ ﷺ، ولأُمَّتِهِ، وَلِلبَشَرِيَّةِ، ديناً عَظِيماً تَكْمُلُ بِهِ الفَضائِلُ، دِيناً عَظِيماً تَصْلُحُ بِهِ أَحْوالُ النَّاسِ في الدُّنْيا، وَالآخِرَةِ، دِيناً عَظِيماً بَلَغَ القمَّةَ، والذُّرْوَةَ فِيما يتَعَلَّقُ بحُسْنِ الخُلُقِ، وَكَمالِ السَّجايا، وطيِبِ الخِصالِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم:4 هَكَذا يَصِفُ اللهُ تَعالَى سيَّدِ المرسَلِينَ – صَلَواتُ اللهِ وَسلامُهُ عَلَيْهِ – قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ – في تفْسِيرِ الآيَةِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ أَيْ عَلَى دِينٍ عَظِيمٍ، فَالدِّينُ الَّذِي وصَفَهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ بِالعَظَمَةِ، هُوَ كَمالُ أَخْلاقِهِ، وَطِيبُ سَجاياهُ - صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ – ما كانَ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ، ما كانَ عَلَيْهِ في عَمَلِهِ، ما كانَ عَلَيْهِ في مُعامَلَتِهِ، ما كانَ عَلَيْهِ في دَعْوَتِهِ، ما كانَ عَلَيْهِ مَعَ أَصْحابِهِ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ، بَلْ وَما كانَ عليْهِ مَعَ مَنْ خالفَهُ، وَلم يُؤْمِنْ بِهِ - صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ -.
كَمَّلَ اللهُ تَعالَى الفَضائلَ والآدابَ لِنَبِيِّنا - صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُه عليْهِ – وَلا غَرابَةَ، وَلا عَجَبَ، فَإِنَّ النبيَّ ﷺ يُخْبرُ عَنْ هَذا الكَمالِ الَّذي جاءَ بِهِ - صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ – فَيَقُولُ كَما في المسْنَدِ، بإِسْنادٍ جيِّدٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ: «إِنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالح َالأَخْلاقِ» مُسْنَدُ أَحْمَدَ (8952)، وقالَ مُحَقَِّقُو المسْنَدِ: صَحِيحٌ .
هذا البيان النبويُّ، الَّذي يُوَضِّحُ الغايَةَ مِنَ البعْثَةِ، وَالمقْصِدِ مِنَ الرِّسالَةِ، وَأَنَّ المقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الرَّسالَةِ، هُوَ تَكْمِيلُ الخُلُقِ، هُوَ تَكْمِيلُ الخِصالِ، هُوَ تَكْمِيلُ السَّجايا الطَّيِّبَةِ، هُوَ الارْتِقاءُ بِالبشرِ إِلَى أَعْلَى درجاتِ السُّمُوِّ الممكِنِ زَكاءً، وطِيباً، وحُسنُ مَعامَلَتِهِ، ليْسَ فَقَطْ مَعَ الخلْقِ، وَلَيْسَ فقَطْ مَعَ الخالِقِ، بَلْ مَعَ كُلِّ شيءٍ، مَعَ الخلْقِ، وَالخالِقِ، وَمَعَ المحِيطِ، وَمَع الكونِ كُلِّهِ، فَجاءَتْ هَذِهِ الشريعةُ مُكمِّلَةً لكُلِّ الفَضائِلِ، لَيْسَ ثَمَّةَ فَضِيلَةٌ يُسْعَى إِلَيْها، وَلا خَصْلَةٌ جَمِيلَةٌ، يُحِبُّ الناسُ أَنْ يَتَخَلَّقُوا بها إِلا وَجاءَ في هَذا الدِّينِ القَوِيمِ، في الكِتابِ، وَالسُّنَّةِ، ما يَحُثُ عَلَيْها، وَيَنْدُبُ إِلَيْها، بَلْ حَتَّى تِلْكَ الخِصالَ الَّتي تختَلِفُ فِيها الأَعْرافُ مِنْ حيْثُ الكَمالُ، وَالطِّيبُ، جَعَلَ الشارِعُ فِيها المطلُوبَ، هُوَ السُّمُوُّ بِالمعْرُوفِ، فقالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ النساء:19 فِيما يتَعَلَّقُ بِأَخَصِّ العَلاقاتِ، وأضْيقِها علاقةُ الرَّجُلِ بِزَوجةٍ، جَعَلَ اللهُ ـ تَعالَى ـ العِشْرةَ بَيْنَهُما، عَلَى أَكْمَلِ ما يَكُونُ في الصِّدْقِ، وَالبيانِ، وَالإيضاحِ، وَأَداءِ الحقُوقِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ في أُمُورٍ تَخْتَلِفُ زَماناً، وتَخْتَلِفُ مَكاناً، أَمرَ فِيها بِالكِمالِ، فَقالَ: ﴿وعاشروهنَّ بالمعروفِ﴾.
إذاً هذهِ الشَّرِيعَةُ جاءَتْ بِالكَمالِ الخُلُقِيِّ، بِكَمالِ الآدابِ، بِطِيبِ السَّجايا، بحُسْنِ الخُلُق، بِطِيبِ المعامِلة، بكُلِّ ما يتعلَّقُ بِالكَمالِ البَشَرِيِّ، لَكِنَّ ذلكَ يَنْبَغِي أن يُفْهَمَ أَنَّهُ مُرْتَبِطٌ بَعْضُهُ بِبَعْضِ، فَمَنْ كانَ حَسَنَ المعامَلَةِ مَعَ اللهِ، لا بُدَّ أَنْ يكُونَ حَسَنَ المعامَلَةِ مَعَ الخلْقِ، مَنْ كانَ مُتأَدِّباً بِالفَضائِلِ في مُعامَلَةِ البشرِ، لا بُدَّ أن يَكُونَ ذَلِكَ مُنْعَكِساً عَلَى مُعامَلَتِهِ: ﴿بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)﴾ الناس:1-3 فلا يُمكنُ أَنْ تَنْفَصِلَ هذِهِ الفَضائِلُ، وَتِلْكَ الآدابُ، وَتَتَجَزَّأُ، بلْ هِيَ مَنْظُومَةٌ، يَأْخُذُ بَعْضُها بِرِقابِ بَعْضٍ، هِيَ حلَقاتٌ مِنَ الفَضائِلِ، هِيَ مُتَسَلِسْلَةٌ مِنَ الأَخْلاقِ الفاضِلَةِ في مُعامَلَةِ الخالِقِ، وفي مُعاملةِ الخلْقِ، فَفِي مُعامَلَةِ الخالِقِ يبلُغُ العَبْدُ الغايةَ، وَالذُّرْوَةَ، بِكمالِ التوحيدِ للهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ إِفراداً لَهُ بِالعِبادَةِ، حِفْظاً لحقهِ، تَعْظِيماً لهُ، محبَّةً لهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ خوْفاً مِنْهُ، رَجاءً لِفَضْلِهِ، وَسائِرِ ما يتعلَّقُ بِالأَعْمالِ القلبيَّةِ، فَيَتَأَدَّبُ العَبْدُ مَعَ اللهِ بتعظِيمِهِ، يَتَأَدَّبُ العَبْدُ مَعَ اللهِ بِإِجْلالِهِ، يتَأَدَّبُ العَبْدُ مَعَ اللهِ بمحَبَّتِهِ، بِتَوْقِيرِهِ، بالقيامِ بأَمْرِهِ، لَيْسَ فَقَطْ في الإِعْلانِ، وَلا في الظاهِرِ، بلْ في الظاهرِ وَالباطِنِ، وفي السرِّ والإعلان، وفي الغَيْبِ والشَّهادَةِ، هَذا ما يتعلَّقُ في الأَدَبِ مَع اللهِ جلَّ في علاهُ، ثُمَّ إِنَّ الأَدَبَ يمتَدُّ إِلَى التأدُّبِ مَعَ الخلْقِ: «فَخِيارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلاقا» كما قالَ النبيُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلَى آلهِ وسَلَّمَ صحيحُ البُخاريِ(3559)، ومسلمٍ (2321) ، وَهَذا الخُلُقُ الحسَنُ، والفضائلُ المتعلِّقَةُ بِطِيبِ الخِصالِ، لا يَقْتصرُ عَلَى جُزْءٍ مِنَ المعامَلَةِ، أَوْ ناحِيَةٍ مِنَ الخُلُقِ الإِنْسانيِّ، بَلْ هِيَ شامِلَةٌ لكُلِّ الناسِ، كَما قالَ اللهُ ـ تَعالَى ـ: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ البقرة:83 لكنَّ ذلكَ يَتفاوَتُ بِاخْتِلافِ الدَّرجاتِ، وَالمراتِبِ، وَالمنازِلِ، فَأَعْلَى النَّاسِ حَقاً بحُسْنِ الخُلُقِ، وَالآدابِ، واَلتأَدُّبِ بِالفضائلِ في المعامَلَةِ، نبِّيُّنا محمدٌ – صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليْهِ – فحقُّهُ مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، حَقُّهُ مِنْ طِيبِ المعامَلَةِ، حقّهُ مِنَ التَّوْفِيةِ في شمائلِ الطِّيبِ، وَخِصالِ الخيرِ، أَعْلَى مِنْ حَقِّ غيرِهِ – صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ – فَهُوَ أَعْظَمُ النَّاسِ حَقَّاً علَى النَّاسِ، وَذَاكَ أَنَّهُ الَّذي أَخْرَجَنا اللهُ ـ تَعالَى ـ بِهِ مِنَ الظُلُماتِ إِلَى النُّورِ – صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عليْهِ – فَلا يُمْكِنُ أنْ يَتحقَّقَ سُموٌّ للناسِ إلا بِتَوفِيةِ حَقّهِ - صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ – ثُمَّ يمتدُّ ذَلِكَ إلَى سائِرِ البَشَرِ، عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ، عَلَى حَسْبِ مَنازلِهمْ، عَلَى حَسْبِ الرابطَةِ الَّتي تكُونُ بينَكَ وَبيَنهُمْ، وأَعْلى الروابِطِ ثَقِةً، وَمَكانةً، رابِطَةُ الإِيمانِ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ الحجراتُ:10 كَما قالَ اللهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ في مُحكَمِ كِتابهِ، ثُمَّ المؤْمِنُونَ عَلَى دَرَجاتٍ، وَمَراتِبَ، أَحَقُّهُمْ بحسْنِ الصُّحْبَةِ، مَنِ اجتمَعَ لَهُ حقُّ القَرابَةِ، وَحَقُّ الدِّيانَةِ: "مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصُحْبَتي؟ قال: «أُمُّكَ»، قالَ ثُمَّ مَنْ: قالَ: «أُمُّكَ»، قالَ ثُمَّ مَنْ: قالَ: «أُمُّكَ»، قالَ ثُمَّ مَنْ: قالَ: «أَبُوكَ» صَحِيحُ البُخارِيِّ (5971)، وَمُسْلِمٌ (2548) ثمَّ إنَّ النبيَّ – صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ – بيَّن أَنَّ القُرْبَ في الحَقَّ تَتَفاوَتُ، وَتَزيدُ بِزِيادَةِ الصِّلَةِ فَيَقُولُ ﷺ لمّا سُئِلَ كَما في السُّنَنِ: مِنْ أَبَرُّ؟ قالَ: «أُمكَ وأباكَ، ثُمَّ أُخْتَكَ وَأَخاكَ، ثُمَّ أَدْناكَ فَأَدْناكَ» مسندُ أَحْمَدَ (7108)، قالَ الهيتَمِيُّ: رَواهُ أَحْمَدُ، وَرِجالُهُ رجالُ الصَّحِيحِ . هَذا يُبَيِّنُ لَنا جَمِيلَ الآدابِ الَّتي جاءَتْ بِها الشَّرِيعَةُ.
وَإِنَّ الآدابَ الَّتي جاءَتْ بِها الشَّرِيعَةُ، لا تَخْتَصُّ ما يَكونُ في الظاهِرِ، بَلْ إِنَّها تشملُ ما يَكُونُ في الظاهِرِ، وَالباطِنِ، وَلِذلكَ يَقُولُ النِبيُّ ﷺ عَلَى سَبِيلِ المثالِ، في مُعامَلَةِ الخَلْقِ: «لا يؤمنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يحِبُّ لنَفْسِهِ» صحيحُ البُخاريِّ (13)، وَمُسْلم (45) . وَهُنا يَنبغِي أَنْ نَتأمَّلَ أَنَّ حُسْنَ المعامَلَةِ، وَطِيبِ الأَخْلاقِ، لا يَقتصِرُ عَلَى ابتسامَةً عابرَةٍ، وَلا عَلَى كَلِمَةٍ لِطِيفَةٍ، وَ لا عَلَى إِحْسانٍ جُزْئِيٍّ، مَقْطُوعٍ، إِنَّما هُوَ أَصْلاً يَبْتَدِأُ بِطِيبِ القَلْبِ، وَامتلاءِهِ بحبِّ الخيرِ لِلناسِ، ثُمَّ يُتَْرجِمُ هَذا في القَوْلِ، يُتَرْجِمُ هَذا في العَمَلِ، يُتَرْجِمُ هَذا في المعامَلَةِ، يَكُونُ هَذا في السرِّ، وَفي الإِعْلانِ، فَإِنَّ طِيبَ الخُلُقِ، وَآدابَ الشَّرِيعَةِ لا تقتصرُ عَلَى جانِبٍ مِنَ الجوانِبِ، هَذا في مُعامَلَةِ الخَلْقِ، وَكَذَلِكَ الشَّأْنُ في مُعامَلَةِ الخالِقِ، فَإِنَّ اللهَ تعالَى أَثْنَى عَلَى الَّذِينَ يخافونَهُ بِالغيْبِ، وَيخْشَوْنهُ باِلغَيْبِ، فَيَقُولُ اللهُ ـ تعالَى ـ: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ الأنبياء:49 ويقولُ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ الملك:12 ويقولُ: ﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ ق:33 وَقالَ ـ جلَّ وَعَلا ـ: ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ ق:32 وقالَ سُبحانَهُ: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ ق:34 هَذا الفَضْلُ، وذلِكَ العَطاءُ، وَتِلْكَ الهِباتُ في فَضلِ اللهِ ـ تَعالَى ـ هِي مُرتَّبَةٌ عَلَى الخشْيَةِ، وَالخوْفِ، وَحِفْظِ اللهِ ـ جلَّ وَعَلا ـ في الغَيْبِ، والشَّهادَةِ، حُسْنُ المعامَلَةِ مَعَ اللهِ حَتَّى في حالَ الخلوَاتِ، وَلَيْسَ فَقَطْ في حال الإِعْلانِ، وَحالَ الظُّهُورِ، وَالمشاركَةِ لِلنَّاسِ، لِذَلِكَ جاءَ في المسْنَدِ، بِإِسْنادٍ لا بَأْسَ بهِ، مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عنْ أَبِيهِ عَنْ جِدهِ أَنَّ النبيَّ ذَكَرَ العَوْراتِ وَستْرِها، وَحِفْظِها عَنْ أَعْيُنِ الناسِ: "فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ: أَحُدُنا يَكُونُ خَالِياً" يَعْني هَلْ يَسْتُرَ عَوْرَتهُ حَتَّى في حالِ خَلْوَتِهِ؟ قالَ ـ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ ـ: «فاللهُ أحقُّ أنْ يُسْتَحْيَ مِنْهُ» سُنَنُ أبي دَاوُدَ (4017)، والترمذيُّ (2769)، وقالَ: هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
إذًا الآدابُ، وَالفَضائِلُ في مُعاملةِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ لا تَقتصِرُ فَقطْ عَلَى الظاهِرِ، بلْ تَشْمَلُ الظاهِرَ، وَالباطِنَ:
لكُلِ شيءٍ زينةٌ في الوَرَى*** وَزِينَةُ المرءِ تَمامُ الأَدَبِ
فكلُ الفضائِلِ تُدرَكُ بِتَكْمِيلِ الآدابِ، بِالحرصِ عَلَى أَنْ يُكمِّلَ الإِنْسانُ الأَدَبَ في مُعامَلَةِ اللهِ، الأَدَبُ في مُعامَلَةِ الخلْقِ.
وهُنا نَصِلُ إلَى أمْرٍ يتعلَّقُ في قَوْلِهِ ـ تَعالَى ـ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ إنَّ الدُّعاءَ مِنَ العِباداتِ الجلِيلَةِ، الَّتي جَعَلَ اللهُ ـ تَعالَى ـ لَها آداباً، وَلَها خِصالُ كَمالٍ، وَلها سَجايا حَسَنةٌ لا بُدَّ مِنَ اسْتِحْضارِها، حَتَّى يَكُونَ الدُّعاءُ وَاقِعاً مَوْقِعَ القَبُولِ، فَإِنَّ مُراعاةَ آدابِ الدُّعاءِ مِنْ أَسْبابِ قَبُولهِ، وَمِنْ مُوجِباتِ أَنْ يَقعَ مَوقِعَ الرِّضا مِنَ اللهِ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ وَمَنْ رَضِيَهُ اللهُ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ أَجْزلَ الثَّوابَ عَلَيْهِ، وَأَعْطَى العَبْدَ فِيهِ ما لا يَرِدُ لَهُ عَلَى بالٍ، وَلا عَلَى خاطِرٍ، لِذَلِكَ مِنَ المهمِّ أَنْ نَعْرِفَ، أَنَّ الدُّعاءَ ليسَ عَمَلاً خالِياً مِنْ مُراعاةِ الآدابِ، الَّتي جاءتْ بِها الشريعَةُ، بَلْ هُوَ عَمَلٌ كسائِرِ العباداتِ، يَنْبَغِي أَنْ تُراعَى فِيهِ الآدابُ الشرعيَّةُ، في الظاهرِ، وفي الباطنِ، ولذلكَ مُرْتكَزاتُ الأَدَبِ فيما يتعلّقُ في الدُّعاءِ ثَلاثَةٌ:
الأول: أدبٌ في القلبِ، بأن يمتلئَ يقيناً بِاللهِ، وَثِقَةً بِهِ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بهِ، وَضَراعَةً، وَافتقارًا لَهُ.
الثاني: أَدَبٌ في اللِّسانِ، بَأَنْ يَكُونَ اللِّسانُ مُنْتَقِياً، طيَّبَ الكلامِ، في سُؤالِ اللهِ عزّ وَجَلَّ، حَتَّى يَكُونَ الإنسانُ في دُعاءِهِ، دَقِيقاً في أَلْفاظِهِ، مُتْحَرِّياً ما يَكُونُ سَبَباً للقَبُولِ، وَمُوجِباً لِرِضا اللهِ جَلَّ وَعَلا.
الثالِثُ: كَذلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُراعَيَ الأَدَبُ فِيما يَتَعَلَّقُ في حالِهِ، في سُؤالِهِ لِرَبِّه، فَإِنَّ الأَدَبَ في الحالِ، هُوَ مما يُوجِبُ قَبولَ الدُّعاءِ، ويُبلّغُ العَبْدَ النَّوالَ، وَيُدْرِكُ بِهِ ما يؤمِّلُ مِنَ السُّؤالِ.
هذِه آدابٌ إِجْماليَّةٌ في الدُّعاءِ، سَنَتَكَلَّمُ علَيْها إِنْ شاءَ اللهُ ـ تَعَالى ـ في جُمْلَةٍ مِنَ الحلَقاتِ، لكنْ يَنْبغِي أَنْ نُدْرِكَ، أَنَّ الآدابَ ضرُورةٌ في الدُّعاءِ، لِيَكُونَ مَقْبُولاً، فَإِنَّ مِنَ الدُّعاءِ يُرَدُّ لافتِقارهِ للآدابِ الَّتي يَنْبَغِي أَنْ تُراعَى.
اللهمَّ ألهمْنا رُشْدنا، وقِنا شرَّ أنفُسِنا، كَمِّلنا بطيّبِ الخصالِ، وكريمِ السَّجايا في الظاهرِ، وفي الباطنِ، إِلَى أن نلقاكمْ في حلقَةٍ قادمةٍ مِنْ بَرْنامجكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أسْتَودعكمُ اللهَ الَّذي لا تضيعُ ودائعهُ، وَالسلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ.