عُنْوانُ الحَلَقَةِ: الافْتِقارُ إِلَى اللهِ في الدُّعاءِ
السَّلامُ عَلَيْكُمْ ورَحْمَةُ اللهِ وَبركاتُهُ. مَرْحَباً وأَهْلاً وَسَهْلاً بِكُمْ أَيُّها الإِخْوَةُ والأَخَواتُ.. في هَذِهِ الحَلْقَةِ الجَدِيدَةِ مِنْ بَرْنامِجكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾غافِر:60 .
الحمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بربِّهِمْ يَعْدِلُون، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لَهُ الحَمْدُ كلُهُ في السرِّ، والإعلانِ، في الظاهِرِ، والباطِنِ، وَالِّلسانِ، وَالجَنانِ، وَالأركانِ، والأَعْمالِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهدُ أَنْ لا إِلَهِ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلَيِنَ وَالآخِرِينَ، رَبِّ العالمينَ، لا إلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحيمُ، لَهُ الأَسْماءُ الحُسْنَى، وَالصِّفاتُ العُلا ولَهُ المثَلُ الأَعْلَى، سُبْحانَهُ وبِحَمْدِهِ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُاللهِ وَرَسُولُهُ، بلَّغَ البلاغَ المبينَ، وأَدَّى الرِّسالَةَ عَلَى أَكْمَلِ ما يكُونُ مِنَ البَيانِ، وَالبَلاغِ، فَشهِدَ اللهُ تَعالَى لَهُ بِذَلِكَ، حَتَّى تَرَكَ النَّاسَ عَلَى مَحَجَّةٍ بَيْضاءَ، ليْلُها كَنَهارِها، فَهِيَ شَرِيعَةُ نُورٍ، وَضِياءٍ، وَهُدىً، وَبَصِيرةٍ، فَصَلَّى اللهُ عليْهِ وَعَلَى آلِهِ، وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبعَ سُنَّتَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ:
فَحيَّاكُمُ اللهُ في هَذِهِ الحَلْقَةِ، الَّتي سَنَتَناوَلُ فِيها إِنْ شاءَ اللهُ تعالَى، ما يَكُونُ مُوجِباً لِقَبُولِ السُّؤالِ، الدُّعاءُ عِبادَةٌ، وَثَمَّةَ أَعْمالٍ، وَأَقْوالٍ، وَأَحْوالٍ، تَكُونُ سَبَباً لإِجابَةِ الدُّعاءِ، فَجَديرٌ بِالمؤْمِنِ أَنْ يَطْلُبَ ذلِكَ، فاللهُ ـ تَعالَى ـ يَقُولُ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ أَيْ اطْلُبوا ما يُقَرِّبُكُمْ إِلَيْهِ: ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾المائدة:35 فأَمرَ اللهُ بِتقواهُ، وأمَرَ المؤْمِنينَ بأنْ يْبَحَثُوا عَنِ الطُّرُقِ، الَّتي يَصِلُونَ بها إِلِى اللهِ، يَتوسَّلُونَ بِها إِلَيْهِ، وَيَدْخُلُونَ بِها عَلَى إِحْسانِهِ، وَيُدْرِكُونَ بِهِ فَضْلَهُ، وَامْتِنانِهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ إِنَّ الوَسِيلَةَ الَّتي أَمَرَ اللهُ ـ تَعالَى ـ بإبْتِغائِها لَيْسَتْ أَمْراً غائِباً، بَلْ جاءَ بَيانُهُ في هَدْيِ النبيِّ ﷺ، بَلْ جاءَ بِيانُهُ في كِتابِ اللِه ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ قَبْلَ ذَلِكَ، وَتَرْجَمَهُ رَسُولُهُ ﷺ عمَلاً في قَوْلِهِ، وَحالِهِ، وعِبادَتِهِ، وَسائِرِ شَأْنِهِ، فَلِذَلِكَ جَدِيرٌ بِالمؤْمِنِ، أَنْ يَفْهَمَ الوَسِيلَةَ، الَّتي أُمِرَ بِطَلَبِها، في قَوْلِهِ: ﴿ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ مِنْ خِلالِ ما كانَ عَلَيْهِ النَّبيُ ﷺ فَهُوَ: "ترُجُمانُ القُرْآنِ" فَقَدْ سُئِلَتْ عائِشَةُ – رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْها – عَنْ خُلُقِ النبيِّ ﷺ فقالَتْ: "كانَ خُلُقُهُ القُرْآن"مُسندُ أَحْمَد (24601)، وَقالَ مُحَقِّقُو المسندِ: صحيحٌ لِذلكَ مِنَ المهِمِّ أَنْ نَفْهَمَ هَذا الأَمْرَ، في قَوْلِهِ: ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ في ظِلِّ ما كانَ عليهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، وَلِذَلِكَ ذكرَ العُلَماءُ – رَحِمهمُ اللهُ – في التوسُّلِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ طَرِيقَيْنِ:
1) طَريقُ مَشْرُوعٌ.
2) طريقٌ مَمْنُوعٌ.
الطريقُ المشرُوعُ: التوسُّلُ المشْرُوعُ هُوَ ما كانَ علَيْهِ رَسُولُناﷺ، ما دَلَّ عَلَيْهِ الكتابُ، والسُّنَّةُ.
الطَرِيقُ الممْنُوعُ: فَهُوَ ما كانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشِّرْكِ، فَإِنَّهُمْ: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً﴾مريم:81 وَقالُوا: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾الزُّمرُ:3 فَيَنْبَغِي الحَذَرُ مِنْ مَزَلَّةِ الأَقْدامِ، وَلا نَجاةَ لِلنَّاسِ إِلَّا ِبُسلُوكِ الصراطِ، وَالسبيلِ، الَّذي كانَ عَلَيْهِ سيَّدُ الأَنامِ، محمدُ بْنُ عَبْدِاللهِ – صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ – إِنَّ المؤْمِنَ مَأْمُورٌ بأَنْ يَطْلُبُ الوَسِيلَةَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَبْتَغِي إِلَيْهِ الوَسيلَةَ في كُلِّ أَعْمالِهِ، وَفي دُعاءِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ، ما يكونُ مُوجِباً لِدُعائِهِ، مُوجِباً لإجابَةِ سُؤالِهِ، وَإِدْراكِ ما يَرْغبُهُ مِنْ مَسائلِهِ وَدَعَواتِهِ.
إِنَّ الدُّعاءَ في الجُمْلَةِ لَهُ صُورَتانِ:
الصُّورَةُ الأُولَى: إِمّا أَنْ يَأْتِيَ طلبًا لأَمْرِ.
الصُّورَةُ الثانِيَة: وإمّا أَنْ يَأْتيَ خبرًا.
وَقَدْ يَأْتي في صُورَةٍ ثالِثَةٍ: يجمَعُ فِيها بَيْنَ الطَّلَبِ وَالخَبَرِ.
الدُّعاءُ إِمّا أَنْ يَكُونَ طَلَباً، وَهَذا هُوَ الغالِبُ، وَالأَكْثَرُ في سُؤالِ السَّائلينَ، وَدُعاءِ الدَّاعِينَ، وَهُو أنهمْ يطلبونَ ما يؤمِّلونَ، فيقولُونَ: ارزُقْنا، اهدِنا، أَعطِنا، وَما إِلَى ذلكَ مِنَ المطالبِ، الَّتي يطْلُبونَ فِيها ما عِنْدَ اللهِ ـ جلَّ وَعَلا ـ هَذا دُعاءُ طَلَبٍ يبْتَغِي فِيهِ الِإنْسانُ ما عِنْدَ اللهِ، بِسُؤالِهِ، و: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعاءِ»مُسْنَدُ أَحْمَدَ (3370)، وَحَسَّنَهُ الأَلْبانِيُّ كَما قالَ النبيُّ ﷺ، فلذلكَ إِذا سألَ العبدُ ربهُ، عادَ بِعَطاءِهِ، وَنوالِهِ، وَإِحْسانِهِ، فمِنْ قائِلٍ يَدْعُوا اللهَ، ويقُولُ: يا اللهُ، يا رَبُّ، إِلَّا رَجَعَ بِإِحْدى ثَلاثِ خِصالٍ:
الخَصْلَةُ الأُولَى: إِمّا أَنْ يُجيبُهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ إِلَى سُؤالِهِ.
الخصلةُ الثانيةُ: وَإِمّا أَنْ يدفعَ عنهُ مِنَ الشرِّ مِثْلَ ما سَأَلَ.
الخصلةُ الثالثةُ: وَإِمّا أَنْ يَدَّخِرها أَجْراً لَهُ في الآخِرِةِ.
قالَ الصَّحابَةُ لمّا ذكَرَ النبيُّ ﷺ هَذا العَطاءَ، وَهَذا الفَضْلُ، قالَ الصَّحابَةُ – رضِيَ اللهُ تَعالَى عنهُمْ –: "إذاً نُكْثِرُ يا رَسُولَ اللهِ" إِذا كانَ الواحِدُ مِنَّا لا يَقُولُ: يا اللهُ، وَ لا يَقُولُ: ياربُّ، إِلَّا ويرجعُ بواحدٍ مِنْ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاثةِ: "إِذاً نُكثرُ يا رَسُولَ اللهِ، قالَ: اللهُ أَكْثَرُ"سننُ الترمِذِيُّ (3573)، وَقالَ: هَذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ففضلهُ أوسعُ، وعطاءهُ أحْسَنُ، وجميلُهُ، وَإِنْعامُهُ فوقَ ما تُدركهُ عقولُ الخلقِ: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾المائدة:64 سبحانهُ وبحمدهِ.
إذاً مِنْ طُرُقِ ابْتغاءِ الوسِيلَةِ إِلَى اللهِ، في مَقامِ الدُّعاءِ، أَنْ يَطْلُبَ المؤْمِنُ كُلَّ ما يرْجُوهُ مِنْ ربهِ، وَأَنْ يَدْعُوا اللهَ تَعالَى مُوقِناً بِالإجابَةِ، فَإِنَّهُ يُدْرِكُ بذَلِكَ مَأْمُولُهُ، وهَذا الَّذي عليْهِ أكْثرُ الناسِ، وأكثرُ الدَّاعِينَ يَسْلُكُونَ هَذا الطَّرِيقُ، في ابْتِغاءِ الوسيلةِ، ثَمَّةَ طريقٌ آخرُ، يُدْرِكُ بهِ الناسُ ما يُؤمِّلُونهُ مِنَ العَطايا، والهباتِ في دعاءهمْ للهِ عزَّ وَجَلَّ، وَمُناجاتهِمْ لَهُ، وَهُو الخبرُ، لا يَأْتي طَلَبٌ، إِنَّما يأْتِي السُّؤالُ علَى صِيغَةِ الخبرِ، وَالخبرُ لَهُ صُورتانِ:
الصُّورةُ الأُولَى: إِمَّا أَنْ يُخبرَ عَنِ اللهِ، المسؤولِ جَلَّ في عُلاهُ.
الصورةُ الثانيةُ: وإِمّا أن يُخبرَ عَنْ حالِ السائلِ، وَقدْ يأْتِي في بعضِ الأَحْيانِ الخبرُ عنْ حالِ السائلِ، وحالِ المسؤولِ، وكلُ هذِهِ الطرقُ تُوجبُ عطاءَ اللهِ عزَّ وجلَّ، فمنَ الطُرقِ الَّتي يُدركُ الإنسانُ بها ما يؤمِّلُ، أَنْ يَصِفَ حالَهُ بينَ يَدي ربهِ، فَمَنْ وَصفَ حالهُ بيْنَ يدَيْ رَبِّهِ جَلَّ في عُلاهُ، أَوْشَكَ أَنْ يُدْرِكَ مَأْمُولَهُ، وأَنْ يُحصِّلَ ما يرغبهُ، وَما يتمنَّاهُ، فَوَصْفُ الحالِ مُوجبٌ لِبيانِ الحاجَةِ، مُوجبٌ لِلافتقارِ، مُوجِبٌ للانكسارِ، وَالذُّلُّ بيْنَ يديْهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ ـ وَلِذَلِكَ كانَ هَذا مِنْ مُوجِباتِ العطاءِ، مِنْ أَسْبابِ إِجابَةِ الدُّعاءِ أَنْ تَشْكُو حالَكَ إِلَى رَبِّكَ، أَنْ تبُثَّ شكْواكَ إليهِ، كَما قالَ يَعْقُوبُ – عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾يوسف:86 لم يقلْ إِنَّما أطلُبُ فَرجَ كُربةٍ، إِنَّما أَطْلُبُ قَضاءَ حاجَةٍ مِنَ اللهِ، بَلْ قالَ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ فيشكُوا إِلَى اللهِ جلَّ في عُلاهُ، فهوَ المشتكَى ـ جلَّ في عُلاهُ ـ هُوَ الَّذي تُنزلُ بِهِ الحاجاتُ، وقَدْ جَرَى عَلَى هَذا النبيونَ – صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ – في دَعَواتِهمْ، فَهَذا آدمُ – عَلَيْهِ السَّلامُ – لمّا خالفَ أَمْرَ اللهِ بِالأَكْلِ مِنَ الشَّجَرةِ، وَقَدْ نهاهُ اللهُ ـ تَعالَى ـ عَنْ ذَلِكَ، طَفِقَ يدْعُوا اللهَ، بِالكلماتِ الَّتي علَّمَهُ اللهُ إِيَّاهُ، فَقالَ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾الأَعراف:23 توسَّلْ إِلَى اللهِ ـ جَلَّ وَعَلا ـ في وصْفِ حالهِ بِأَنَّهُ قَدْ ظلمَ نفْسَهُ، وتجاوزَ حُدُودَ ما أُمِرَ بِهِ، وانْتَهَكَ ما مُنِعَ مِنْهُ، فَكانَ ذلِكَ مُوجِباً لهذهِ الحالِ مِنْ البُعْدِ، والمجانَبَةِ لِلصِّراطِ المستقيمِ، ثُمَّ تعرَّضَ بعْدَ وَصْفِِ الحالِ، لِطَلِبِ المغفِرَةِ، لكنَّهُ لمْ يَقُلْ اغْفِرْ لي، إِنَّما قالَ: يا رَب إِنْ لمْ تَغْفِرْ لي هَلَكْتُ، فَكانَ هَذا مِنْ وَصْفِ الحالِ الماضِي، والحالُ المستقبلُ، في حالِ الماضِي في قَوْلِهِ: ﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا﴾ وَالحالُ المسْتقْبَلُ: ﴿وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ومثلُهُ، وقريبٌ منْ قَولِ مُوسَى – عليهِ السلامُ – عندَما أحاطَتْ بهِ الخُطُوبُ، وَهَذا قَبْلَ رِسالَتِهِ، وَقَبْلَ الوَحْي إِلَيْهِ، لمّا خَرَجَ خائِفاً مِنْ مَصْرِ، وَجاءَ مَدْينُ، وَحَصَلَ ما حصلَ مِنْ إغاثَةِ، وإعانَةِ المرأَتَيْنِ، تَنَحَّى ناحِيَةً، وَقالَ: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾القصص:24 هَلْ دَعا شَيْئاً؟ هَلْ طَلَبَ شَيْئاً مِنَ اللهِ؟ إِنَّهُ توَسَّلَ إِلَى اللهِ، في وَصْفِ حالِهِ، لم يَزِدْ عَلَى أَنْ وَصَفَ حالَهُ لِرَبِّهِ، في مَقامِ الشِّكايَةِ، في مقامُ التضرعِ، وَالانْكِسارِ، ماذا كانَ عِنْدما سَأَلَ هَذِهِ المسْأَلَةِ؟ انفتحتْ لَهُ أَبْوابُ العَطايا، خَرَجَ خائِفاً فَحَصَلَ الأَمْنُ، خَرَجَ طرداً لا عَمَلَ لهُ، وَلا مالَ، فَحَصَّلَ وظيفَةً، خَرجَ فرْداً لا زْوجةَ لَهُ، وَلا وَلَدْ، فَحَصَلَتْ لَهُ الزوجَةُ، خَرَجَ وَهُوَ في حالٍ مِنَ النَّدَمِ عَلَى ما كانَ مِنَ الخَطَأِ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِالرِّسالَةِ، فَكَلَّمَهُ رَبُّنا جَلَّ في عُلاهُ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ ما أَوْحَى، كُلُّ هذهِ العَطايا الَّتي أَدْرَكَها مُوسَى – علَيْهِ السَّلامُ – كانَ مِفتاحُها الافْتِقارُ إِلَى اللهِ، وَالضَّراعَةُ إِلَيْه، حَيْثُ قالَ في دُعاءِهِ: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ فدَعا اللهَ ـ عزَّ وَجَلَّ ـ ِبهذا الدُّعاءِ، واستشعارُ الفقرِ إِلَى اللهِ، يَفْتحُ أَبْوابَ العَطاء، كُلُنا إِلَى اللهِ فُقراءُ، وَلَذِلَكَ يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يستَحْضِرَ هَذا المعْنَى، وأَنْ يَشْكُوا إِلَى اللهِ حالَهُ، فَرْق بَيْنَ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ ارْزُقْني، وبيْنَ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ إِني فَقِيرٌ فأَعْطِني، أَوْ: اللهُمَّ إِنِّي فَقِيرٌ لا مالَ لي، لا حِيلَةَ لي، وَتَصِفُ حالَكَ، فَإِنهُ مُوجِبٌ لِلعَطاءِ بِما هُوَ أَكْبَرُ، وَمُوجِبٌ لِلرحْمَةِ بِما هُوَ أعظمُ، وَلهذا أنتَ الآنَ لَوْ جاءكَ شَخْصٌ، فقالَ: أَنا جائعٌ، أَنا مَرِيضٌ، أَنا ذُو حاجَةٍ، أَلَيْسَ هَذا في مُبادَرَتِكَ لِعطاءِهِ، وَقَضاءِ حاجَتِهِ أَقْرَبُ مِنْ أَنْ يَقُولَ: أعطِني ما يَسدُّ جَوْعَتي، أَعْطِني ما يَكُونُ سَبباً لِشفاءِي، وزوالِ مرَضِي، بالتَّأْكِيدِ أنهُ يختلف الأسلوبُ، ولهذا ينبغِي لمنْ سَأَلَ اللَه ـ عزَّ وجلَّ! ـ أَنْ يُطْنِبَ في وَصْفِ حالهِ، وبيانِ فَقْرِهِ، فإنَّ اللهَ تَعالَى يُعْطِي الفقيرَ مِنْ عِبادةِ، الَّذي يُظهِرُ الفَقْرَ، ويستشعرُ الافتقارَ، أعْظَمَ مما يُعْطِي غَيْرَهُ: "كُلُّنا جائعٌ إِلا مَنْ أطعمهُ، كُلُنا عارٍ إلا مَنْ كَساهُ، كُلُنا ضالٌ إِلا مَنْ هداهُ، كُلُنا عَلَى ذنْبٍ، وَخَطأٍ، وَإِساءةٍ إِلَّا مَنْ استغفرَ اللهَ تعالَى فغفرَ لَهُ" فلنجْتَهِدْ في عَرْضِِ شكايَتِنا إِلَى اللهِ: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾يوسف:86 إلىَ أَنْ نلقاكُمْ في حلْقةٍ قادمَةٍ مِنْ برنامجكُمْ: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ أستودعِكُمُ اللهُ الّذي لا تضيعُ ودائِعُهُ، وَالسلامُ عليكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ.