المقدمُ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ عَلَى رسولِ اللهِ، مُشاهِدينا الكرامَ، السلامُ عَليكُم ورحمةُ اللهِ وبرَكاتُه، وحَياكمُ اللهُ إلى حلقةٍ مِن حلقاتِ برنامجِكم الفقهيِّ الإفتائيِّ المباشرِ: [يَستَفتونكَ].باسمِكُم مُشاهِدينا الكرامَ أينَما كنتُم أرحبُ بضيفي صاحبِ الفضيلةِ الشيخِ الدكتورِ/ خالدِ بنِ عبدِ اللهِ المصلحِ، أستاذِ الفقهِ المشارِكِ في كليةِ الشريعةِ بجامعةِ القصيمِ، والداعيةِ الإسلاميِّ المعروفِ، أهلًا وسهلًا بكُم صاحبَ الفضيلةِ.
الشيخُ: أهلًا وسهلًا مرحبًا بكَ، اللهُ يُحييكَ وأهلًا وسهلًا بالإخوةِ والأخواتِ.
المقدمُ: وأهلًا وسهلًا بكُم ثانيةً، ونسعدُ بتواصلِكُم على الأرقامِ التي تظهرُ تِباعًا على الشاشةِ، دكتورُ خالدٌ، الحديثُ في هذهِ الحلقةِ عَنِ القدسِ، يَعني الآنَ يا شيخُ غفلةُ الناسِ عَنِ القدسِ، وما يُخطَّطُ لهُ في ظلِّ الأحداثِ المتسارعةِ التي يشهدُها العالمُ، يَعني حتى كادَ الناسُ الآنَ يا شيخُ أنْ يَنسوا قضيةَ القدسِ، التي هيَ قضيةُ كلِّ المسلمينِ، لعَلنا نقفُ معَها حفِظَكمُ اللهُ.
الشيخُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأُصَلِّي وأُسَلِّمُ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وأصحابِه ومَنِ اتبعَ سُنتَه، واقتفَى أثرَه بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أمَّا بعدُ:
فأسألُ اللهَ العظيمَ ربَّ العرشِ الكريمِ الذي بيدِه ملكوتُ كلِّ شيءٍ أنْ يحققَ ما وعدَ بهِ عبادَه، مِن أنَّ الأرضَ يرِثُها عبادُ اللهِ الصالحونَ، وقدْ قالَ ـ جلَّ وعَلا ـ: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون[105] إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾[الأنبياء:105-106]، وهذا يبيِّنُ أنَّ ميراثَ الأرضِ إنما يكونُ بتحقيقِ العبوديةِ للهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ فبقدرِ ما يحققُ الأفرادُ، وتحققُ الأمةُ العبوديةَ للهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ في الظاهرِ والباطنِ، وفي السرِّ والعلنِ، بقدْرِ ما يكتبُ اللهُ ـ تعالى ـ لها العزَّ والثناءَ، ويُيسرُ لها أسبابَ السموِّ والارتفاعِ.
الأمرُ لا يعني أنْ تُعطِّلَ أسبابًا؛ بل إذا اتَّقَى العبدُ ربَّه علِمَ أنَّ مِن تقوَى اللهِ ـ جلَّ وعَلا ـ أنْ يأخذَ بالأسبابِ، القدسُ المباركُ هوَ أرضُ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ الداخلُ في قولِه ـ تعالَى ـ: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾[الأنبياء:105]، وقدْ أورثَ اللهُ ـ تعالَى ـ هذهِ الأرضَ المباركةَ هذهِ الأمةَ المُطهرةَ، وجاءَ ذلكَ ذِكرًا وبَيانًا في كُتبِ المتقدِّمينَ، فجاءَ ذكرُه في صحفِ بَني إسرائيلَ مِنَ النصارَى وغيرِهم، في بيانِ صفةِ مَن يفتحُ بيتَ المقدسِ، فكانَ ذلكَ مُطابقًا لوصفِ عُمرَ بنِ الخطابِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ ـ خليفةِ رسولِ اللهِ، فكانَ فتحُ القدسِ على يدِ عُمرَ، وجاءَ بنفسِه لشريفِ المكانِ، وعظيمِ منزلتِه، جاءَ بنفسِه ليفتَحَها، وليستلِمَ مِن قساوسَتِها مفاتيحَ بيتِ المقدسِ، دخلَها ـ رضِيَ اللهُ عنهُ ـ وأقَرَّ فيها العدلَ، وقامَتْ فيها دولةُ الإسلامِ، وتحققَ فيها موعدُ اللهِ ـ جلَّ وعَلا ـ بلْ تحققَ فيها وعدُ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ ورأَى المؤمنونَ موعودَه مِن أنهُم ورِثوا هذه الأرضَ المباركةَ، أقاموا فيها العدلَ على أكملِ الوجوهِ، بقيتْ على هذا سنواتٍ متطاولةً تحتَ حكمِ الإسلامِ في عدلٍ وأمنٍ وطمأنينةٍ وسَعةِ رزقٍ مِنَ اللهِ ـ جلَّ وعَلا ـ حتى أحتلَّها الصليبيونَ في الغزوِّ الصليبيِّ الذي توجَّه لهذهِ الأمةِ لاغتنامِ والتنعمِ بخيراتِ هذهِ البقاعِ المباركةِ.
فكانتِ الحملاتُ الصليبيةُ وكانَ مِنها ما استولَى على بيتِ المقدسِ وبقيَ تحتَ حُكمِهم رَدحًا مِنَ الزمنِ، حتى أذِنَ اللهُ ـ تعالى ـ برُجوعِها إلى أهلِ الإسلامِ فتحررَتْ على يدِ صلاحِ الدينِ، بقيَتْ على هَذا سنواتٍ متطاولةٍ حتى جاءَ الاستعمارُ، واحتلَّ أكثرَ بلادِ الإسلامِ ومنهُ هذهِ البقعةُ المباركةُ، وكانَ أنْ خُطِّطَ أنْ تكونَ هذهِ الأرضُ تَرحيلًا لليهودِ، وتَجميعًا لهم مِن أقطارِ الدنيا، فجاءوا مِن أشتاتِ الأرضِ وتفرُّقِها إلى هذه البقعةِ جاءوا بمكرِهم وسوءاتِهم تحتَ مُخططِ الصهيونيةِ، وليسَ تحتَ شعارِ دينِ اليهودِ فقطْ بلْ بمبدإٍ حتى اليهودُ أنفُسُهم يَنقمونَ عليهِ في طوائفٍ وفرَقٍ مِنهُم.
فاحتلَّتِ الأرضَ المباركةَ منذُ أكثرَ مِن ستينَ عامًا، وبقيَتْ على هذا البلاءِ المستديمِ الذي لا ينقطعُ ليلًا ونهارًا، حتى أصبحَتْ هذه القضيةُ هيَ قضيةَ الأمةِ الكبرَى؛ لأنها قضيةٌ ترتبطُ بأعزِّ الأماكنِ بعدَ مكةَ والمدينةِ، إنها الأرضُ المباركةُ التي جعلَها اللهُ تعالى مسرَى رسولِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ حيثُ قالَ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾[الإسراء:1]، وانظُرِ التعبيرَ القرآنيَّ ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ معَ أنَّ الإسراءَ كانَ إلى المسجدِ، وهذا يدلُّ على أنهُ في الذروةِ مِنَ البركةِ؛ لأنهُ إذا كانتِ البركةُ حولَ الشيءِ وهوَ المقصودُ فإنَّ البركةَ بهِ أكبرُ مِن غيرِه.
وقدْ ذكرَ اللهُ تعالى إذ جاءَ بأبي الأنبياءِ إبراهيمَ -عَلَيهِ السلامُ- أنهُ أنجاهُ إلى الأرضِ المباركةِ، وكذلكَ لوطٌ -علَيهِ السلامُ- حيثُ قالَ جلَّ في عُلاه: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:71]، فكانَتْ نجاةً لإبراهيمَ ـ عَلَيهِ السلامُ ـ ولوطٍ.
ولذلكَ مِن بركةِ تلكَ الأرضِ أنها أرضُ الأنبياءِ ففيها النُّبُوَّاتِ، ففيها بَنو إسرائيلَ وأنبياؤُهم، وفيها عيسَى ـ عَلَيهِ السلامُ ـ وفيها إبراهيمُ وأولادُه، فكلُّ الأنبياءِ الذينَ ذُكِروا أو أكثرُ الأنبياءِ الذينَ جاءَ ذِكرُهم في القرآنِ هُم في تلكَ الأراضي المباركةِ في بيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدسِ.
فقضيةُ القدسِ قضيةٌ لها بعدٌ دينيٌّ، ولها بعدٌ تاريخيٌّ، ولها بعدٌ سياسيٌّ، ولها بعدٌ اقتصاديٌّ، لها أبعادٌ شتَّى لكنَّ المحورَ الأساسَ الذي جعلَ هذهِ القضيةَ باقيةً على تعاقبِ الأجيالِ، وتَوالي الأممِ أنها أرضُ مسرَى رسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ وأرضٌ إسلاميةٌ أقامَ فيها الإسلامُ العدلَ، وسوَّى فيها بينَ المُستحِقينَ للحقوقِ فأعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
اليومَ معَ طولِ المدةِ أصابَ الناسُ نوعًا مِنَ الغفلةِ عَن هذا الحقِّ في هذهِ الأرضِ المباركةِ، وسببُ هذا طولُ الزمنِ، فُرقةُ أهلِ الأرضِ، قلةُ الحيلةِ، شدةُ المكرِ، الإعلامُ الذي أخفَى هذهِ القضيةَ وأشغلَ الناسَ بقَضايا أُخرَى، تَوالي النكباتِ في بلادِ الإسلامِ هُنا وهناكَ، ومِن آخرِ ما كانَ مِنَ المُشغِلاتِ عَن هذهِ القضيةِ ما اشتغلَ بهِ الناسُ مِن هذه الحوادثِ التي دهَتِ الأرضَ العربيةَ في أكثرَ مِن بقعةٍ، بلْ مِن مَشرِقِه إلى مَغربِه ففيهِ مِنَ القَضايا ما اشتغلَ بهِ الناسُ حتى اشتغلَ الناسُ بأنفسِهم فانكفأَتْ اهتماماتُهم، معَ أنَّ التعسُّرَ في هذهِ القضيةِ وفي الاهتمامِ بها قائمٌ منذُ زمنٍ بعيدٍ وقبلَ هذا الانشغالِ بهذهِ الأحداثِ.
لكنْ جاءَتْ هذهِ الأحداثُ فزادَتِ الطينَ بلةً، وأرجُو اللهَ -عزَّ وجلَّ- أنْ يكونَ ما يَجري في بلادِ الإسلامِ، وفي الوطنِ العربيِّ مِن إزالةِ رموزِ الظلمِ، ورؤوسِ الطغيانِ والاستكبارِ أنهُ بادرةُ خيرٍ تُبشِّرُ بعودِ هَذا المسجدِ المباركِ إلى بلادِ الإسلامِ، نرجُو ذلكَ، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، واللهُ غالبٌ على أمرِه ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلَمونَ.
الواجبُ في ظلِّ هذا الاشتغالِ أنْ يهتمَّ الإعلامُ، وأنا أقولُ الإعلامُ لأنَّ الإعلامَ سلاحٌ نفاذٌ، وسلاحٌ ذو أثرٍ كبيرٍ في التوجيهِ، وأنا أقولُ: حتى إذا كانَ الإعلامُ..