المقدمُ: يُقالُ إنَّ الحبَّ عاطفةٌ؛ يعني تجيشُ في النفسِ وكلٌّ يدَّعِي حبَّ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فيقولُ: ما مدَى صدقِ حبِّ الشخصِ المسلمِ للنبيِّ عَلَيهِ الصلاةُ والسلامُ؟
الشيخُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، وأُصَلِّي وأُسلِّمُ عَلَى آلِه وأصحابِه أجمَعينَ.
أمَّا بعدُ:
فالسلامُ عليكُم ورحمَةُ اللهِ وبرَكاتُه، حياكُمُ اللهُ، وأسألُ اللهَ أنْ يجعلَه لِقاءً نافعًا مُباركًا.
فيما يتعلقُ بمحبةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعلى آلِه وسَلَّمَ ـ محبةُ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ مِن أصولِ الإيمانِ، فلا يتِمُّ إيمانُ أحدٍ إلَّا بمحبتِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعلى آلِه وسَلَّمَ ـ وأدلةُ ذلكَ كثيرةٌ مِنها قولُ اللهِ ـ جلَّ وعَلا ـ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[الأحزاب:6]، فمَنزلتُه في المحبةِ والقربِ، والإجلالِ، والتعزيرِ، والتوقيرِ مقدَّمٌ على كلِّ أحدٍ مِنَ الخلقِ، وقدْ قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «لا يُؤْمِنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إلَيهِ مِن ولدِهِ، ووالدِهِ، والناسِ أجمعينَ»صحيح البخاري (14)، وصحيح مسلم (44) وهَذا في الصحيحَينِ.
وقدْ جاءَ في حديثِ عُمرَ ـ رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ ـ أنهُ قالَ للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لمَّا سمِعَ شيئًا مِن هذا: «يا رَسولَ اللهِ لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن كُلِّ شَيْءٍ إلَّا مِن نَفسي فَقالَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ: لَا، والَّذي نَفْسِي بيَدِهِ، حتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْكَ مِن نَفْسِكَ، فَقالَ لهُ عُمَرُ: فإنَّه الآنَ، واللَّهِ، لَأَنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسِي، فَقالَ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ: الآنَ يا عُمَرُ»صحيح البخاري (6632) يَعني الآنَ تمَّ إيمانُك وكمُلَ.
وهَذا يدلُّ على أنَّ محبةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعلى آلِه وسَلَّمَ ـ مِنَ الأصولِ التي يَنبَغي للمؤمنِ أنْ يُحققَها، وأنْ يتعبَّدَ اللهَ ـ تعالى ـ بها، هيَ مِن مقتضياتِ ولوازمِ الإيمانِ بأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ والمحبةُ درجاتٌ ومنازلُ ومراتبُ أعلاها أنْ يكونَ العبدُ في محبةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ مُنجذِبًا إليهِ انجذابًا قلبيًّا، معَ اتِّباعِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ في كل شئونِه وأحوالِه، فإنَّ معيارَ المحبةِ الذي يتميزُ بهِ المُدَّعونَ لمحبتِه هوَ اتباعُه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ.
فإنَّ هَذا المعيارَ هوَ الذي يفصِلُ بينَ الدعاوَى الكاذبةِ وما كانَ مِن صِدقٍ في قلوبِ المُحبينَ للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ودليلُ ذلكَ قولُه ـ جلَّ في عُلاه ـ : ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[آل عمران:31]؛ فقدْ جعلَ اللهُ ـ تعالى ـ دليلَ محبتِه، وعنوانَ صدقِ هذهِ المحبةِ متابعةَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ ـ فمَن صدقَ في محبةِ اللهِ ورسولِه كانَ لرسولِه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ اتبَعُ، فكلَّما زادَ الحبُّ زادَ الاتباعُ، وكلما نقصَتِ المحبةُ نقصَ الاتباعُ.
وقدْ يجهلُ الإنسانُ شيئًا مِن شرائعِ الدينِ فلا يعملُ بهِ جهلًا منهُ بهِ، وهَذا لا يؤاخذُ؛ لأنهُ جاهلٌ والشريعةُ إنما تثبتُ في حقِّ مَن علِمَ وأحاطَ علْمًا بالشرائعِ فالتكليفُ تابعٌ للعلمِ.
وعَلَيهِ فإنَّ كثيرًا ممَّن يدَّعونَ المحبةَ يجهلونَ أنَّ المحبةَ الحقيقيةَ هيَ مُتابعتُه، هيَ لزومُ نهجِه، هيَ معرفةُ عظيمِ منزلتِه، هيَ الانجذابُ القلبيُّ لهُ، هيَ استشعارُ الإحسانِ الذي وصلَك منهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فإنَّ اللهَ أخرَجَنا بهِ مِنَ الظلماتِ إلى النورِ، وبهِ عرَفْنا سعادةَ الدنيا وما ندركُ بهِ الطمأنينةَ والفوزَ، وبهِ ندركُ فوزَ الآخرةِ؛ فإنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ علَّمَنا ما تصلحُ بهِ دُنيانا، وما يطيبُ بهِ معاشُنا، وما تصلحُ بهِ آخرتُنا، وما ندركُ بهِ الفوزَ في الآخرةِ.
كلُّ هذهِ المعاني توجبُ المحبةَ، الإحسانُ العارضُ على الإنسانِ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ يأسرُ قلبَه، فلو أنَّ أحدًا قدَّمَ لكَ خدمةً أو أخرجَكَ مِن ورطةٍ كانَ في قلبِك باقيًا وعلى لسانِك لاهِجًا.
وبالتالي الفضلُ الذي كانَّ للنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ عَلَينا عظيمٌ، فإنَّ اللهَ أخرَجَنا بهِ مِنَ الظلُماتِ إلى النورِ، فكلُّ فضلٍ وكلُّ خيرٍ وكلُّ برٍّ، وكلُّ صلاحٍ، وكلُّ ما يُمدَحُ بهِ الإنسانُ، وكلُّ إحسانٍ يصلُ إلى الخلقِ، وكلُّ إحسانٍ في معاملةِ الخالقِ إنما هوَ ببركةِ دعوةِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ الذي أخرَجَنا اللهُ ـ تعالى ـ بهِ مِنَ الظلماتِ إلى النورِ.
فهذا يستوجِبُ محبتَه وانجذابَ القلبِ إلَيهِ، ويُخطئُ بعضُ الناسِ فيخرُجُ عَن هديِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ويهدمُ بنيانَ دعوتِه في توحيدِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ وعبادتِه وحدَه لا شريكَ لهُ بدعوَى المحبةِ، فتجدُه يشركُ بالنبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ بأنْ يرفعَهُ في منزلةِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ فيسألَه قضاءَ الحاجاتِ، يدعوهُ مِن دونِ اللهِ، يقولُ: المدَدُ يا رسولَ اللهِ، أغِثْني يا رسولَ اللهِ! وما إلى ذلكَ مِنَ الكلماتِ التي يزعُمونَ أنها دليلُ المحبةِ.
وهيَ في الحقيقةِ دليلُ البُغضِ؛ لأنَّ المحبةَ الصادقةَ لا يمكنُ أنْ تقودَ إلى نقضِ ما جاءَ بهِ، وجاهَدَ لأجلِه وبذلَ نفسَه في تحقيقِه وهوَ عبادةُ اللهِ وحدَه لا شريكَ لهُ؛ فإنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ قامَ للهِ في هذا قومةً لم يقُمْها أحدٌ مِن قبلِه؛ فالذي يُحبُّه يحبُّ ما جاءَ بهِ مِن توحيدِ اللهِ، وتعظيمِه، ويلزمُ سنةَ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ويخرجُ عَن كلِّ هذهِ البدَعِ والمحدَثاتِ، ليسَتِ المحبةُ بقصائدَ تُتلَى، ولا بترانيمَ تُنشَدُ، ولا بإطراءٍ يخرجُ عَن ما ينبَغي أنْ يكونَ عَلَيهِ المؤمنُ مِن تجنبِ الإطراءِ الذي نهَى عنهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ في قولِه: «لا تُطروني، كَما أطرَتِ النَّصارَى عيسَى ابنَ مريمَ ـ عليهِ السَّلامُ ـ فإنَّما أَنا عبدٌ فَقولوا: عبدُهُ ورسولُهُ»صحيح البخاري (3445) فهوَ عبدُ اللهِ ورسولُه.
هذا أبلغُ وأعظمُ ما يوصفُ الرسولَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ لنْ يبلغَ واصفٌ في مدحِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ فوقَ هَذا الوصفِ، مَهما أوتيَ مِنَ البيانِ، وفصاحةِ اللسانِ، وجزالةِ الحروفِ والكلماتِ، لنْ يأتيَ بشيءٍ أوفَى وأكملَ في بيانِ حقِّه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ ووصفِ مَنزلتِه مِنَ الوصفِ الذي ارتضاهُ لنفسِه، قولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ إنهُ عبدُ اللهِ ورسولُه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ.