المقدمُ: بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، مُستمعِينا الكرامَ، السلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ، أَهْلًا ومرْحبًا بكمْ مَعَنا إِلَى هذهِ الحلقةِ مِنْ بَرنامجِ "ينابيع الفتْوَى"، وفيهِ نُسلطُ الضوءَ علَى ما يهمُّ الصائمَ في شهرِ رمضانَ. نَتواصلُ وإِياكمُ في هَذا اللِّقاءِ علَى مَدَى ساعةٍ إِلَّا قَلِيلًا. هذهِ أطيبُ تحيةٍ مِنِّي محمدُ القَرْنِي، وأَخِي/ مُصْطَفَى الصَّحَفي مِنَ الإِخْراجِ، كَذلكَ يسرُّنا وَيِطيبُ لَنا في هَذِهِ الحلقةِ أنْ يَكُونَ مَعنا الضَّيْفُ الكريمُ فضيلةَ الشيخِ الدُّكْتورُ/ خالد المصلح؛ أُسْتاذُ الشريعةِ بِجامعةِ القصيمِ، الَّذِي نسعدُ ونأنَسُ بِالحديثِ معهُ حوْلَ مَواضيعِ هَذا اللِّقاءُ، السَّلام عليكم يا شيخ خالد، وحياكمُ اللهُ.
الشيخُ: وعليكمُ السلامُ وَرحمةُ اللهُ وبركاتهُ، مَرْحبًا بكَ أَخِي محمدٌ وَحَيَّا اللهُ الإخْوةُ والأَخواتُ.
المقدمُ: حياكمُ اللهُ، أَهْلًا وَسهْلاً بكمْ أَيْضًا مُسْتمعينا الكرامَ ننتظرُ مَشاركتكمْ وتَفاعلاتكمْ عَلَى الهواتفِ الَّتي سوْفَ نُعْلِنُها بعْدَ قليلٍ، وفي هَذا اللقاءِ سوْفَ نجددُ إِيمانَنا ونُواصِلُ أَيْضًا الحديثُ عنْ شهْرِ رمضانَ؛ في الحَكْمَةِ مِنْهُ، وَفي مقْصودهِ وَلماذا جعلَ اللهُ هَذا الشهرَ المباركَ لهُ مِنَ الأجْرِ ولهُ منَ الفَضائلِ الشَّيْءُ الكثيرُ؟
إذًا الموْضوعُ هُنا "حقيقةُ الصَّومِ وَمقْصُودهُ"، ولعلكمْ شَيْخَنا تبدءُونَ بِهذا الموْضُوعِ في فاتحةِ هَذا اللقاءِ، ثمَّ إنْ شاءَ اللهُ نَأْتِي إِلَى ما يُهُمُّ المستمعينَ منَ الأسئلَةِ والاستفْساراتِ. تفضَّلُوا باركَ اللهُ فيكمْ.
الشيخُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وأُصَلِّي وأسلِّمْ علَى نبيِّنا محمدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحابهِ أَجْمعينَ. أَمَّا بعدُ:
فالسلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهُ وبركاتهُ، نسألُ اللهَ تعالَى أنْ يرزُقَني وإياكمُ الصِّيامَ وَالقِيامَ إِيمانًا وَاحْتِسابًا، وأنْ يُيَسِّر لَنا الخيرَ، وأنْ يجعَلَنا ممنْ يُصُومُ هَذا الشهرَ علَى وجْهٍ يحقِّقُ الغايةَ وَالمقصُودَ مِنْ مَشْروعيتهِ.
الله - عز وجل - عندما ذكر فرض الصيام بيَّن غايته في أول آية فرض فيها الصوم فقال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 183 .
قولهُ - جلَّ وعَلا - : ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ بيانٌ للعلَّةِ وَالغايَةِ والمقصُودِ مِنْ هَذهِ العبادةِ وَهَذا الركنُ العَظيمُ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ.
إنَّ المقْصُودَ منَ الصوْمِ هُوَ أَنْ يتزوَّدَ الإِنْسانُ بِهذا الصَّوْمِ مِنْ تَقْوَى اللهِ - عزَّ وجلَّ - فإِنَّ اللهَ ـ تعالَى ـ قدْ أَمَرَ بالتزودِ بِالتقوَى قالَ ـ تعالَى ـ: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ البقرة: 197 ، فخيرُ ما يتزودُ بهِ العبدُ بِلقاءِ ربهِ جلَّ في علاهُ: تقواهُ - سُبحانهُ وبحمدهِ - وَالتقوَى هِيَ المقصودةُ منْ جميعِ العباداتِ والشعائرِ وَالطَّاعاتِ، فكلُّ ما شرعهُ اللهُ ـ تعالَى ـ إِنَّما هُوَ لِتحْقيقِ تقْواهُ - سُبحانهُ وبحمدهِ - وَلهذا ينبغِي للعبدِ المؤمنِ أنْ يترقَّبَ هَذا المقصودَ في صومهِ وفي سائِرِ عملهِ حَتَّى يُحققِ ما مِنْ أجلِهِ شَرعَ اللهُ ـ تَعالَى ـ الصَّومُ وَسائرُ العِباداتِ والشرائعُ.
أَيُّها الإِخْوةُ والأَخواتُ، التقْوَى الَّتِي شُرِعَ مِنْ أجلِها الصومُ مَحلُّها القلبُ طَيبًا وطهارةً وزكاءً ونقاءً وصَلاحًا، هَذا مبْدَأُ ما يثمرهُ الصومُ وَسائرُ العِباداتِ منَ التقْوَى، وَهُو زكاءُ القلبِ وَصلاحهُ، وقدْ قالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - : «أَلا وإِنَّ في الجسدِ مُضغةٌ إِذا صلحتْ صَلَح الجسدُ كلهُ وإذا فسدتْ فَسدَ الجسدُ كلهُ أَلا وهِيَ القلبُ»صحيحُ البخاريُّ (52) ولذلكَ مِنَ الضَّرُوريُّ أنْ نُدْركَ أنَّ هذهِ الغايةَ هِيَ مقصودُ اللهِ - عزَّ وجلَّ - مِنْ هَذا الصومِ ومنْ هذهِ العِبادةِ، بَلْ مِنْ سائرِ العِباداتِ، وإِذا أدركْنا هَذا انتقلْنا إلَى البَحْثِ عَنِ تحقِيقِ ذلكَ في صوْمِنا، هَلْ فِعْلًا نحنُ نصومُ ونتمثلُ أمرَ اللهُ - عزَّ وَجلَّ - بالصيامَ لتحقيقِ هذهِ الغايةِ، أمْ أنَّ الصوْمَ مجرَّدُ إِمْساكٍ عنِ الطعامِ والشرابِ معَ غِيابِ الغايةِ والمقصودِ؟ إمساكُ الإنسانِ عنِ الطعامِ والشرابِ هُوَ عَمَلُ الصَّوْمِ، فالصوْمُ إِمْساكٌ عنِ المفْطِراتِ الطَّعامِ والشرابِ وَسائِرِ المفْطِراتِ مِنْ طُلُوعِ الفجْرِ إلى غُرُوبِ الشمسِ.
لكنْ هَذا العَملُ لهُ غايةٌ ومَقْصُودٌ، وهُوَ الَّذِي نَتَحَدَّثُ عَنْهُ الآنَ، الصَّوْمُ في ذاتهِ عملٌ واضحٌ، إِمْساكٌ، كسرُ النفسِ عنِ المفطراتِ في هَذا الزمَنِ الذي شرعَ اللهُ تعالَى فيهِ الإِمْساكَ ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ البقرة: 187 ، وَلا خِلافَ بينَ العُلماءِ أنَّ هَذا هُوَ الصومُ الَّذِي نتعبَّدُ اللهَ تعالَى بهِ وَهُوَ الإمْساكُ عنِ المفْطراتِ، لكنِ ينبغِي أَنْ نُدْركَ أنَّ الإِمْساكِ عنِ المفطراتِ لهُ غايةٌ وَحكمةٌ ومقصودُ، ونحنُ عندَما نقولُ: غايةٌ، وحكمةٌ، ومقصودٌ؛ نتكلمُ عنِ الثمرةِ الَّتِي يجنِيها الإنسانُ بِصومهِ، الَّتي يجبُ أَنْ يكُونَ مُحَصِّلًا لَها بصومهِ، وهِيَ تقْوَى اللهِ - عزَّ وجلَّ - بقلبهِ: طيبًا وزكاةً إيمانًا واحْتسابًا، وَفي قولهِ: سَدادًا وَصَلاحًا، وَفي عملهِ: اسْتقامةً وَهُدًى، وبِالتالي يكونُ الصَّوْمُ حامِلًا للإنْسانِ عَلَى كُلِّ فضِيلةٍ رادِعًا لهُ عنْ كُلِّ رذيلَةٍ، أمَّا حملهُ عَلَى كُلِّ فَضِيلةٍ فيشهدُ لَهُ قولُ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - : «الصومُ جُنَّة»صحيحُ البُخاريِّ (7492) وَمعْنَى جنةٍ أنهُ وِقايةٌ تَقِي الإنسانَ القبائِحَ وَالرذائِلَ والشُّرُورَ وَالمفاسِدَ؛ ولذلكَ قالَ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -: «فإِذا كانَ صَوْمُ يومِ أَحدكمْ فَلا يرفُثْ وَلا يصخبْ» وفي روايةٍ: «ولا يجهلْ» أي: لا يتكلمْ بِما هُوَ جاهلٌ مِنَ القولِ أَوْ يتصرَّفْ وَيتعاملْ ْبما هُو جَهْلٌ منَ المعامَلَةٍ كالمخاصمةِ وَالاعْتِداءِ علَى أموالِ الناسِ، أوْ الاعْتداءِ علَى أعراضهِمْ، أَوْ الاعْتداءِ علَى أبْدانهمْ وَأَبشارهِمْ، كُلُّ ذلكَ يتنافى مَعَ اللهِ، فلذلكَ قالَ: «فَلا يرفُثْ وَلا يصْخبْ» وفي روايةٍ: «وَلا يجهَلْ فإنِ امرُؤٌ قاتلهُ أوْ شاتمهُ» وقعَ اعْتداءٌ عليهِ هُنا الزكاءُ والسُّموُّ: «إنِ امْرُؤٌ قاتلهُ أو شاتمهُ فليقلْ إني امْرؤٌ صائمٌ» يعْني يعْتَذرْ عنْ مقابلةِ الإِساءةِ بمثلِها بِالصَّوْمِ الَّذِي زكتْ بِهِ نفسُهُ وَسَما بهِ خُلقهُ وسُلُوكهُ إلَى أَنْ لا يُقابِلَ الإِساءةَ بِمثْلِها، بلْ يُقابِلُها بِالإمْساكِ عنِ الردِّ الردِيءِ، فَضْلًا عنْ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ بِالَّتي هِيَ أحْسَنُ كَما قالَ ـ تعالَى ـ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ فُصِّلتْ: 34 .
فالإسرافُ في سيِّئِ الأخْلاقِ وسَيِّئِ الأَعْمالِ هُوَ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضَى الصِّيامِ؛ لأَنَّ الصِّيامِ يَكُفُّ النَّفْسَ عنْ مُشتهياتِ وَملذِّاتِ مُباحةٍ في الأَصْلِ مِنْ طَعامٍ أَوْ شرابٍ فَكيفَ بِما هُوَ محرمٌ عَلَى الإنسانِ في زمَنِ الصومِ وفي غيرِهِ، ينبغي أَنْ يكونَ صيامهُ عنِ الكذبِ، صيامهُ عنِ الغِيبةِ، صيامُهُ عنْ أكلِ المالِ بالباطلِ، صيامُهُ عنِ الغدْرِ، صيامهُ عنْ عدمِ القيامِ باِلواجباتِ الوظيفيَّةِ إِذا كانَ مُوظَّفًا، صِيامهُ عنْ عُقوقِ والديْهِ، صيامهُ عنْ قطيعةِ أَرْحامهِ.. وهلُمَّ جَرَّا، مِنْ بابِ أَوْلَى؛ لأَنَّ هذهِ الأَشْياءَ محرمةٌ عليهِ في الصَّومِ وفي غيرِ الصومِ.
إِذا كانَ الأَكْلُ وَالشربُ المأذونُ فيهِ بِغيرِ الصيامِ يمنعُ في الصوْمِ فغيرُهُ مِنَ المحرَّماتِ الممنوعةِ في الصومِ وفي غيرِ الصومِ ينبَغِي أنْ يَتأكدَ امتناعهُ مِنْها وأَنْ يكُفَّ نَفسهُ عنْها؛ وَلهذا جاءَ في الحديثِ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّم - قالَ: «منْ لمْ يدعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بهِ فلَيسَ للهِ حاجةً في أَنْ يدعَ طعامَهُ وشرابُهُ»البخاريُّ (6057)؛ هَذا الحديثُ العظيمُ يبينُ أنَّ كلَّ منْ جاءَ بِقولٍ باطلٍ، قولٌ محرمٌ في صيامهِ، أوْ أَتَى بفعلٍ محرمٍ في زمنِ صيامهِ فإنَّهُ لم يحققِ الغايةَ الَّتي مِنْ أَجْلِها شرعَ اللهُ تعالَى الصَّوْمُ؛ إِذْ قالَ: «مَنْ لمْ يدعْ قَولَ الزورِ» يعْنِي قولَ المحرَّمِ الباطلِ منِ الكذبِ والنميمةِ وشهادةِ الزورِ والمشاتمةِ والمخاصمةِ، وسائرِ ما يكُونُ مِنَ الأَقْوالِ المحرمَّةِ، مَنْ لمْ يدَعْ هَذا أَوْ لمْ يدَعِ العَملَ بالزورِ، العملُ بالباطلِ مِنَ الفَواحشِ وَالمنكراتِ وسائرِ المحرَّماتِ الَّتي حرمَتْها الشريعةُ؛ فإنهُ لم يأْتِ بمقصودِ الصوْمِ؛ ولذلكَ قالَ: «فليس للهِ حاجةً في أنْ يدَعَ طعامهُ وشرابهُ» والمقصودُ بالحاجةِ الغرضُ والقصدُ فلَيْسَ للهِ قصْدٌ في أنْ يتركَ الطعامَ والشرابَ؛ لأَنَّ ما شرعَ تركَ الطَّعامِ والشرابِ إِلَّا لأَجْلِ أنْ تسكنَ نفْسُهُ وتمتنعَ عَنِ السيئِ منَ القَوْلِ والعملِ، فَإِذا وَقَعَ في السَّيِّئِ مِنَ القولِ وَالعملِ ما حققَ الغايةَ والمقْصُودَ. فَهذا لفْتٌ للأَنْظارِ إِلَى ضَرُورةِ العِنايةِ بمعْنَى الصومِ مِنْ سُموِّ النفسِ وطيبِها وحملِها علَى طيبِ القوْلِ وَصالحِ العَملِ، فَينبَغِي الملاحظةُ لهذا والاعتناءُ بهِ.
وتجويعُ الإنسانِ نفسهُ ومنعهُ نفسَهُ مِنَ الشرابِ إِذا كانَ لا يؤَدِّي إَلَى الغايَةِ؛ فينبغِي أنْ يُراجعَ نفسهُ بِصومهِ حتَّى يحققَ الغايةَ والمقصُودَ، هَذا لا يَعْني أنَّ الإِنسانَ إِذا كذبَ يُفْطرُ، أوْ إِذا اغْتابَ يُفْطرُ، أوْ إِذا وقعَ في محرمٍ يفطرُ، لا، هَذا ليسَ هُوَ المقصودُ مِنَ الحديثِ: «مَنْ لمْ يدعْ قولَ الزُّورِ وَالعمَلَ بِهِ فلَيْسَ للهِ حاجةً في أنْ يدَعَ طَعامهُ وشرابَهُ» إِنَّما المقصُودُ أَنْ يُحققِ الغايةَ مِنْ صوْمهِ بزكاءِ نفْسهِ قَوْلًا وَعَملًا، وكمْ مِنْ صائمٍ تجدُ أنهُ يُعاني الجوعَ والعطشَ، لكنْ لا يقْوَى علَى كفِّ نفسهِ عنِ الخَطَأِ والإساءةِ، وَلهذا ينْبَغِي أنْ يتفَطَّنَ لِلمعْنَى الَّذي تضمنهُ هَذا الحديثَ، وقدْ قالَ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - فِيما رواهُ أَبُو هريرةَ في مسندِ الإمامِ أحمدَ «ربَّ صائمٍ حظُّهُ منْ صِيامهِ الجوعُ وَالعطشُ، وَرُبَّ قائمٍ حظهُ منْ قيامهِ السهرُ»سننُ ابنِ ماجَهْ (1690)، وأحمَدُ (9683) هَذا الحديثُ صححهُ ابْنُ حِبَّانَ وغيرُهُ، وهُوَ تنبيهٌ إِلَى مقاصدِ العباداتِ، القيامُ عبادةٌ جليلةٌ وشريفةٌ والصومُ كذلكَ فرضهُ ركنٌ منْ أَركانِ الإِسْلامِ، فَإِذا كانَ الإِنْسانُ لَيسَ لهُ مِنَ الصومِ إِلَّا أنْ يجوعَ أَوْ يَعْطَشَ وَلا يزكُو نفسهُ ولا تزكو أَخْلاقهُ، أوْ كانَ لهُ مِنَ القِيامِ فقطْ السهرُ وَإِتْعابُ النفسِ دُونَ سموِّ نفْسِهِ وَزكائِها - فإنهُ لا يُدْركُ بذلكَ الصومَ المشروعَ.
عمرُ بنُ الخطابِ ـ رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ ـ يقولُ: «ليسَ الصائمُ مِنَ الشرابِ والطعامِ وحدهُ أوْ ليسَ الصيامُ مِنَ الطعامِ وَالشرابِ وحْدهُ»ابنُ خزيمة (1996)، وابن حِبَّانَ (3479) ثمَّ ينبهُ ـ رضِيَ اللهُ تَعالَى عنهُ ـ: «ولكنَّهُ منَ الكذبِ وَالباطلِ واللغْوِ» هَذا تنبيهٌ مهمٌ أنهُ ينبغِي لَنا في صوْمِنا أنْ نكفَّ أنْفُسَنا عنْ جميعِ الرَّذائلِ وأَنْ نحْمِلَها عَلَى كلِّ الفَضائلِ.
جابرُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ يقولُ: «إِذا صُمتَ فليصُمْ سمعُكَ وبصَرُكَ ولسانُكَ عَلى الكذبِ وَالمآثمِ، ودعْ أَذَى الخادمِ» يعْني الَّذي يخدمكَ لا تُغلظْ لهُ القوْلَ وَلا تشْتدَّ معهُ في المعاملةِ فَيقعُ مِنْكَ أَذى، «وَدَعْ أذَى الخادمِ ولْيكنْ عليكَ وقارٌ وسكينةٌ يومَ صومِكَ، وَلا تجعلْ يَوْم فِطرِكَ ويومَ صوْمِكَ سواءً»؛ هذهِ جملةٌ مختصرةٌ تختصرُ لَنا ما الَّذي ينبغِي أنْ نَكونَ عليْهِ: «لا تجعَلْ يومَ فطركَ ويومَ صومِكَ سواءً» فارقٌ بَيْنَهُما، كيفَ تُفِرِّقْ بَيْنَهُما؟ بالسُّموِّ وتحقيقِ غايةِ الصومِ مِنْ زكاءِ النَّفسِ وطيبِها وصلاحِها وَما إِلَى ذلكَ مِنَ المعاني المهمَّةِ الَّتي ينبغِي أَنْ يَعْتَنيَ بِها الإنسانُ.
منْعُ النفسِ عنِ الطعامِ والشرابِ ليسَ بِعسيرٍ علَى كثيرٍ منَ الناسِ؛ ولذلِكَ قُلنا: يقولُ ميمونُ بْنُ مِهران: «إِنَّ أهْونَ الصَّوْمِ ترْكُ الطعامِ والشرابِ» أَهونُ الصومِ وأيسرهُ أنْ يترُكَ الإنسانُ الطعامَ والشرابَ، لكنَّ الصوْمَ الحقيقيَّ الَّذِي يحقِّقُ غايَةَ ترْكِ الطَّعامِ والشرابِ هُوَ السُّموُّ في الأَخْلاقِ والصلاحِ في القوْلِ والعملِ والسَّدادِ في المسلكِ الَّذِي يخرجُ بهِ الإِنسانُ عنْ رديءِ الأَقْوالِ والأَعْمالِ.
«ليسَ للهِ حاجةً في أَنْ يدَعَ طعامهُ وشرابهُ» لِتكنْ هَذهِ العبارةُ - أَخِي الكريمَ، أختي الكريمةَ - في أَذْهانِنا، «منْ لمْ يدعْ قَولَ الزُّورِ» أوْ قولَ الباطلِ «والعَملَ بهِ» يعْنِي العَملَ بِالباطلِ «فليْسَ للهِ حاجةً في أَنْ يَدعَ طعامهُ وَشرابهُ».
المقدمُ: باركَ اللهُ فيكمْ شيخ خالد، وحقيقةَ هنالكَ مِنَ المسلِمينَ مَنْ يُقَدِّرُ مثْلَ هذهِ النُّصُوصَ المباركةَ وَيعملُ بمقْتضياتِها، وهنالكَ مَنْ تأخذهُ نفْسُهُ أَوْ غَضَبهُ وَما إلَى ذلكَ منَ الأُمُورِ فيقعُ فِيما حذَّرْتَ منهُ.
في هَذا الِّلقاءِ لعلكمْ شيخ خالد تأذنُونَ بِفاصلٍ قَصيرٍ ثمَّ نُكْملُ إِنْ شاءَ اللهُ وإياكمْ هَذا الحديثَ.
الشيخُ: بإذنِ اللهِ.
المقدمُ: باركَ اللهُ فيكُمْ.
حياكُمُ اللهُ مرةً أخرَى مُسْتَمِعِينا الكرامَ إِلَى برنامجِ "ينابيعِ الفَتْوَى" معَ ضِيفنا الكريمِ فضيلةِ الشيخُ الدكتور/ خالدُ المصلح؛ أُستاذ الشريعةِ بجامعةِ القصيمِ، حياكمُ اللهُ شيخُ خالد مرة أُخْرَى.
الشيخُ: حَيَّاكَ اللهُ أَخِي محمد.
المقدمُ: موضُوعُ هذهِ الحلقةِ حقيقةُ الصومِ ومقصودهُ وعرضتمْ يا شيخُ جُملةً مِنَ النصُوصِ الَّتي تدلُّ وتحضُّ علَى أَهميةِ أنْ يضبطَ المرءُ نفسهُ في شهرِ رَمَضانَ، وألا يقتصرَ في صومِهِ علَى الامْتِناعِ عنِ الطعامِ والشرابِ، بلْ يَتَعَدَّى ذلكَ إِلَى ضبطِ أخْلاقِهِ وَتصرفاتهِ والإِحْسانِ إِلَى عِبادِ اللهِ - عَزَّ وجلَّ - بَدءًا بنفسهِ وأسرتهِ ثمَّ المجتمعِ.
أَيضًا أنتمْ مَستمعينا الكرام أذكركمْ بأرقامِ التواصلِ: 6477117 - والرقم الآخرُ: 6493028 مفتاحُ المنطقةِ 012 أوْ علَى تطبيقِ الواتْس أبْ عَلَى الرقمِ: 0500422121 فحياكمُ اللهُ.
شيخُنا تأذنُونَ ببعضِ المشاركاتِ، نعمْ شَيخُ خالدٌ معِي؟
الشيخُ: إيه معك نعمْ.
المقدمُ: أَخُونا إبراهيمُ منْ مكةَ، حيَّاكَ اللهُ يا إِبْراهيم.
المتصلُ: السلامُ عليكُمْ.
المقدمُ: وعليكمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ.
المتصلُ: عندي ثلاثةُ أسئلَةٍ:
السؤالُ الأولُ: ما حكمُ التسبيحِ بِاليدِ اليُسْرَىَ؟
السؤالُ الثاني: «داوُوا مرْضاكمْ بِالصدقَةِ» هلْ هَذا حديثُ صَحيحٌ؟
السؤالُ الثالثُ: أذكارُ الصباحِ والمساءِ؛ هَلْ وردَ فِيها: «أسألُ اللهَ الجنةَ» سَبْعُ مراتٍ و«اللهمَّ أجِرْني منَ النارِ» سبعَ مراتٍ؛ هلْ هَذا حديثٌ صحيحٌ؟
المقدمُ: خَيرًا إنْ شاءَ اللهُ، حفظكَ اللهُ يا أَخِي إبراهيمُ، باركَ اللهُ فيكَ، قبلَ أنْ نأخُذَ هَذا الاتصالُ، الأُختُ شيماء منْ مصْرَ حيَّاكَ اللهُ يا شيماءُ انقطعَ الخطُّ الآنَ لعلَّكَ أُخْتُ شيماءَ تُواصلينَ الاتصالُ بِنا.
شيخُ خالد باركَ اللهُ فيكَ يقولُ الأخُ إبراهيمُ: ما حكْمُ التسبيحِ بِاليدِ اليسْرَى؟
الشيخُ: الأصْلُ في التسبيحِ هُوَ أَنْ يكونَ بِاليمينِ؛ لما جاءَ في السُّننِ منْ حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو أنهُ قالَ: «رأيتُ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - يَعقدُ التسبيحَ بيمينهِ»أخرجهُ أبُوداود (1502)، والترمذيُّ (3411) أي أنه - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - كانَ يُسبحُ فِيما يحتاجُ إِلَى عدٍّ ويكونُ عقْدُ التسبيحِ بِاليمينِ، هَذا هوَ الأَصْلُ، فَإِذا احتاجَ إِلَى أنْ يَضبطَ مَثلًا العشراتِ في التسبيحِ مَثلًا كأنْ يُسَبِّحَ عشرًا، ثلاثًا وثلاثين، إذا أنْهَى عَشرًا استعْملَ يدَهُ اليُسْرى فَلا بأْسَ، أَمَّا الأصلُ في التسبيحِ أنْ يكُونَ بِاليمينِ، أوْ بِاليدِ اليُمْنَى.
المقدمُ: قبْلَ أَنْ نُكْمِلَ هذهِ الأسئلةَ حتَّى لا ينقطعَ الاتصالُ يا شيخَنا إِذا أذنتمْ الأخْتُ شيماء مِنْ مصرَ.
المتصلةُ: السلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ.
المقدمُ: وعليكمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ.
المتصلةُ: مباركٌ عليكمْ رمضان، وأسألُ اللهَ أنْ يجعلَكُمْ مِنَ العُتقاءِ، أَنا عَنْدي سؤالانِ:
الأولُ: ما الفرقُ بينَ الفجرِ الصادقِ والفجرِ الكاذبِ؟ وهلْ يصِحُّ أنْ نوترَ بعدَ الفجرِ الكاذبِ؟
السؤالُ الثاني، أَوْ أَكتفِي بِسؤالٍ واحدٍ؟
المقدمُ: تفضلِي لا بأْسَ.
المتصلةُ: هلْ يجُوزُ لي أن أقسمَ علَى ربي؛ بمعْنَى أنَّنِي محتاجةٌ لشْيءٍ مُعينٍ؛ فأقسِمُ على اللهِ؟
المقدُمَّ: اللهُ المستعانُ، خيرًا إنْ شاءَ اللهُ، تستمعينَ الإجابةَ يا أخْتُ شيماء باركَ الله فيكِ.
نعم شيخ خالد باركَ اللهُ فيكَ، نعودُ إِلَى الأخِ إبراهيم في تَساؤُلاتهِ يقولُ: حدِيث «داووا مرْضاكُمْ بِالصَّدَقةِ» هلْ هَذا حديثٌ صحيحٌ؟
الشيخُ: لا، هَذا الحديثُ لا يصحُّ، أكثرُ العُلماءِ علَى ضعفهِ وعدمِ ثُبوتِهِ عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم - وَبِالتالِي لا يُبْنَى عَليهِ عملٌ، النُّصوصُ دالَّةٌ علَى أنَّ الإِحسانَ يقِي مصارعَ السُّوءِ، ومنهُ ما يكُونُ منْ شفاءِ الأَمْراضِ وزوالِ الأَسقامِ، فَإِذا تَصَدَّق الإنسانُ يرجُو اللهَ - عزَّ وجلَّ - أنْ يزيلَ ما أحلَّ بِهِ مِنْ مرضٍ أو ما حلَّ بمنْ يحبُّ منْ مرضٍ فهَذا في عُمومِ الإحسانِ الَّذي يقِي مصارعَ السوءِ، لكنْ منْ حيثُ ثُبوتُ هَذا الحديثِ «داوُوا مرْضاكمْ بِالصدَقَةِ» فلمْ يثبُتْ عنِ النبيِّ صَلَى اللهُ عليهِ وسلَّم.
المقدمُ: يسألُ كذلكَ يقولُ: ما حُكمُ دُعاءِ بـ«أسألُ اللهَ الجنةَ» سبعَ مراتٍ في الصباحِ، وكذلكَ يستعيذُ بهِ منَ النارِ سبعَ مراتٍ؟
الشيخُ: فيما يتعلَّقُ بِسُؤالِ الإِجارةِ مِنَ النارِ جاءَ فيهِ حديثٌ عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّم - في أَذْكارِ الصباحِ والمساءِ يَعْني فِيما يقولُه الإِنْسانُ دُبُرَ صلاةِ الفجرِ ودُبَر صلاةِ المغربِ؛ فَفِي مسندِ الإِمامِ أَحمدَ وسُننِ أَبِي داوُدَ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قالَ لأَحدِ أصْحابهِ: «إِذا صلَّيْتَ الصُّبْحَ فقُلْ قَبْلَ أنْ تُكلِّمَ أَحدًا منَ الناسِ: اللهُّمَّ أجرْني مِنَ النارِ سبعَ مرَّاتٍ»، ثُمَّ قالَ في بيانِ عاقِبَةِ ذلكَ «فإنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ يومكَ ذلكَ كتبَ اللهُ لكَ جَوارًا مِنَ النارِ»أخرجهُ أحمدُ (18054)، ثمَّ قالَ: «وإِذا صليتَ المغربَ فقُلْ قبلَ أن تُكلمَ أَحدًا منَ الناسِ: اللهمَّ أجرْني منَ النارِ سبعَ مراتٍ كذلِكَ» قالَ: «فإنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ ذلكَ كتبَ اللهُ لكَ جِوارًا منَ النارِ»، وَالحَديثُ في إسنادِهِ مقالٌ؛ ولذلكَ ضَعَّفَهُ جماعَةٌ مِنْ أهلِ العلمِ وصحَّحَهُ آخرُون، فالعملُ بهِ لا بَأْسَ بهِ، وقدْ جاءَ في الأَذكارِ الَّتي صَحَّحَها شيخُنا شيخُ عبدِ العزيزِ بْنِ بازٍ رحمهُ اللهُ - ذكرَ هَذا الذكْرَ.
سُؤالُ الجنةِ جاءَ عِنْدَ الترْمِذِيِّ مِنْ حدِيثِ أنسِ بْنِ مالكٍ أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قالَ: «مَنْ سألَ اللهَ الجنَّةَ ثلاثَ مراتٍ قالتِ الجنةُ: اللهُمَّ أَدْخلْهُ الجنةَ. وَمَنِ اسْتَجارَ مِنَ النارِ ثلاثَ مَرَّاتٍ قالتِ النارُ: اللهُمَّ أَجِرْهُ مِنَ النارِ»سُنَنُ الترمِذِيِّ (2572)، وابْنُ ماجَه (4340) وَهَذا الحديثُ رواهُ الترمذيُّ وابْنُ ماجَه بإسنادٍ لا بأْسَ بِهِ، لكنْ هَذا لَيْسَ مُقَيَّدًا بِصباحٍ وَلا مساءٍ، وليسَ فيهِ العدُّ سَبْعًا بلْ ثلاثَ مراتٍ، اللهمَّ أسألُكَ الجنَّةَ، اللهمَّ أدْخِلْنا الجنةَ أوْ في مَعْنَى ذلكَ.
المقدمُ: الأُخْتُ شَيْماء باركَ اللهُ فِيكمْ يا شيْخنا تسألُ تقولُ: ما الفرْقُ بينَ الفجرِ الصادقِ والفجرِ الكاذبِ أوْ الأولِ والثاني؟ وهَلِ الوتْرُ بَعْدَ الفجرِ الأوَّلِ يَصِحُّ؟
الشيخُ: الفجرُ الصادقُ والكاذبُ المقصودُ بهِما:
الفجرُ الَّذي تحلُّ بِهِ الصَّلاةُ ويحرمُ بِهِ الطَّعامُ للصائمِ، هَذا هُوَ الفجرُ الصادقُ.
وأَما الفجرُ الكاذبُ فَهوَ: نُورُ يِسطعُ في الأفقِ لا يمنعُ منَ الطعامِ ولا تحلُّ بهِ الصلاةُ.
فالفجرُ فجرانِ؛ فَجْرٍ كاذبٍ لا يدْخُلُ معهُ وَقْتٌ صَلاةُ الفَجْرِ وَلا يمنعُ الطعامَ والشرابَ وسائرَ المباحاتِ، وهُوَ الَّذي قالَ اللهُ - جَلَّ وَعَلا - فيهِ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ البقرةُ: 187 فيأْكُلُ ولوْ بَدا هَذا الضياءُ الَّذي يظنُّ أنهُ فجرٌ لأنهُ لمْ يتبينِ الفجرَ الصادقَ، وأَمَّا الفجرُ الصادقُ فهوَ الَّذي يحرُّمُ الطَّعامَ والشرابَ، وهُوَ الَّذي قالَ فيهِ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ - : «ولكنْ أَذانُ ابنِ أُمِّ مكتومٍ» والنبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - يبينُ هذيْنِ الأَذانَيْنِ في حدِيثِ: «لا يمنعنكُمْ أَذانُ بلالٍ فإنهُ يؤذِّنُ بِليلٍ ولكنْ أذانُ ابْنِ أمِّ مكتومٍ»البُخاريُّ (1918) فذكَرَ أذانَينِ للفجرِ؛ الأَذانُ الَّذِي يكونُ قربَ حصولهِ، والأذانُ الَّذِي يكونُ إِذا دخَلَ، فالفجرُ الصادقُ هُوَ الَّذِي يكونُ عندَ دُخولِ الوقتِ.
وفيما يتعلَّقُ بِصلاةِ الوترِ بَعدَ الفجرِ الكاذبِ لا ينفعُ؛ لأنهُ ليسَ صَباحًا، والنبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قالَ: «فإذا خشيتَ الصُّبحَ فأوترْ بواحدةٍ»صحيحُ البخاريُّ (473)، وَبِالتالي يُصلِّي الوترَ إِلَى ظُهورِ الفجرِ الصادقِ.
باِلنسبةِ لحالِ الناسِ اليومِ لاسِيَّما في أكثرِ المدنِ وَالتجمعاتِ السكنيَّةِ لا يتبينُ لهمْ الفجرُ الصادقُ وَلا الكاذبُ؛ لأَنَّ ذلكَ محكومٌ باِلإضاءةِ والأنوارِ باِلمدنِ وَالقُرَى والتجمعاتِ، فيظهرُ هَذا في الأَماكنِ البعيدةِ عَنِ البُنيانِ وعنِ الإِضاءةِ مَمَّا يُمكنُ أنْ يعرفَ الإنسانُ فيهِ الفجرَ الصادِقَ والفجْرَ الكاذِبَ.
ومْنْ أبرزِ ما يميزُ الفجرَ الصادقَ أنَّهُ لا يزدادُ بعدهُ الأفُقُ إِلا إِشْراقًا وَإِضاءَةً، أَمَّا الفجرُ الكاذبُ فهُوَ إِشْراقٌ أوْ إِضاءةٌ ثمَّ نُورٌ ثمَّ يَعقبهُ ظلمةٌ، فهَذا التفريقُ بينَهُما منْ حيثُ الصفةُ، وكذلِكَ منْ حيثُ ما يترتبُ عليهِما منْ أَحكامِ الصلاةِ وصحةِ صلاةِ الفجرِ ومنْ حيثُ الصومِ، وأَمَّا الصادقُ فهوَ الَّذي يجبُ فيهِ الصيامُ والامتناعُ عنِ الطعامِ والشرابِ.
المقدمُ: باركَ اللهُ فيكمْ شيخُ خالد وأحسنَ إِلَيكمْ. فِيما يتعلقُ بسؤُالِها: هلْ يجوزُ القسمُ عَلَى اللهِ؟
الشيخُ: الإقسامُ علَى اللهِ تعالَى لهُ باعِثانِ:
الباعثُ الأولُ: أنْ يكونَ إِقسامًا صادرًا عنْ حُسنِ ظَنٍّ بِاللهِ - عزَّ وجلَّ - ويقينٍ بصدقِ وعدِهِ وعظيمِ فضلهِ وواسعِ إحسانهِ ونُفوذِ حُكمهِ وقُدرتِهِ، فَهَذا لا بأْسَ بهِ إِذا كانَ في أمرٍ مباحٍ، وهُوَ الَّذي يفسرُ بِهِ قولُ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - : «إِنَّ مِنْ عِبادِ اللهِ منْ لوْ أَقسمَ علَى اللهِ لأبرَّهُ»البخاريُّ (2703) أي: لنفَّذَ ما قالهُ وَما أقسمَ علَى اللهِ فيهِ.
وأَمَّا النوعُ الثاني: مِنَ الإِقسامِ علَى اللهِ - عزَّ وجلَّ - فهُوَ التألِّي عنِ اللهِ النَّاشِئِ عنْ غُرورٍ في النفسِ وإِعجابٍ ورُؤْيةٍ أنَّ لهُ علَى اللهِ حَقًّا، فَهَذا مَذْمُومٌ، وقدْ جاءَ فيهِ ما ذكرهُ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - في قصَّةِ الرجُلِ الَّذي كانَ لهُ منْ بَني إسرائيلِ صاحبِ، وَكانَ هَذا الصاحِبُ يأْتي الفُجُورَ وَيقعُ في المعْصِيةِ فقالَ: «واللهِ لا يغفرُ اللهُ لِفُلانٍ» هَذا قسمَ علَى اللهِ، أَقْسمَ علَى اللهِ ألَّا يغفرَ لِفلانٍ، «فقالَ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: مَنْ ذا الَّذي يتأَلَّى علَيَّ أَلَّا أَغْفِرُ لِفُلانٍ، إِنِّي قدْ غفرْتُ لَهُ وأَحْبَطْتُ عَمَلَهُ»صحيحُ مُسْلمٌ (2621) نعُوذُ بِاللهِ.
هَذا القَسمِ مِنْ الإِقْسامِ علَى اللهِ ناشئٍ عنْ إِعْجابٍ بالنفسِ، رُؤيةُ العمَلِ، واعْتِقادِ المقْسِمِ أنَّ لَهُ علَى اللهِ حقًّا يُنفِّذُ بهِ ما يقسمُ، هَذا مذْمُومٌ، وهُوَ عَلَى خطأٌ.
أمَّا الأوَّلُ فَذاكَ ناتِجٌ عنِ افْتِقارٍ إِلَى اللهِ وَثوابٍ وحُسْنِ ظنٍ بهِ، وهُوَ المشارُ إِلَيْهِ في قولِ النبيِّ - صَلَّى اللهِ عليهِ وسَلَّمَ - : «رُبَّ أَشْعثَ أغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالأَبْوابِ لوْ أقسمَ علَى اللهِ لأبرهُ»الحاكمُ في مستدركهِ (8145).
المقدمُ: باركَ اللهُ فِيكمْ يا شيْخَنا.
الأخُ محمد بنُ سالمٍ منْ مكَّةَ، حيَّاكَ اللهُ أخِي محمد، تفضلْ.
المتصلُ: السلامُ عليكُمْ.
المقدِّمُ: عَليكمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ، ارفعْ صَوْتَكَ باركَ اللهُ فِيكَ أَخِي محمدٌ، تفضلْ.
المتصلُ: الشيخُ خالد بنُ عبدِ اللهِ المصْلحُ؟
الشيخُ: وعليكمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتهُ.
المتصلُ: باركَ اللهُ فيكَ، ما الفرقُ بينَ الحديثِ الضعيفِ والحديثِ الموضوعِ منْ ناحيةِ ثبوتهِ عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسلَّمَ - وَالعمَلِ بِهِ؟
حديثُ «اللَّهُمَّ باركْ لَنا في رجبَ وشعبانَ وبلغْنا رمضانَ» بعضُ العُلماءُ يقولُ: ثبتَ. وبعضْهُمْ يَقُولُ: لم يثبتْ.
وجزاكمُ اللهُ خَيْرًا، وَالسلامُ عليكمْ.
المقدمُ: عليكمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ، شُكْرًا لكَ أَخِي محمدُ، تفضلْ شَيخَنا، الأخُ محمدُ يسأَلُ عنِ الفرْقِ بينَ الحديثِ الضعيفِ والموضُوع مِنْ حيثُ العملُ بهِ، ويسألُ أَيْضًا عنِ الدُّعاءِ الَّذِي يعلمُ عندَ بعضِ العامةِ: «اللَّهمَّ بارَكَ لَنا في رجبٍ وشعبانَ وبلِّغْنا رَمَضانَ»أخرجهُ أحمدُ (2346).
الشيخُ: فيما يتعلَّقُ بِالحديثِ الضَّعِيفِ هُوَ ما فقدَ شُروطَ الحديثِ الصَّحِيحِ. والحديثُ الصحيحُ هُوَ: ما نقلهُ العدْلُ الضابِطُ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ - عدلٌ في نِفسهِ ضابطٌ في حفظهِ عنْ مثلهِ إِلَى النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم - هَذا هُوَ ضابطُ الحديثِ الصحيحِ، لوِ اختلَّ فيهِ العدالةُ أَوْ الضبطُ فإنهُ يكونُ خارِجًا عنْ حِدِّ الحديثِ الصَّحيحُ فيكونُ ضَعِيفًا، والضعيفُ دَرجاتٌ ومراتبُ منهُ الموضوعُ وَهُوَ المكذُوبُ عَلَى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ -، وَهَذا لا تَحلُّ نسبتهُ للنبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم - وَلا نقْلَهُ إِلَّا بِالإِشارةِ إِلَى أَنَّهُ مكذوبٌ وموضوعٌ علَى النبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلمَ - لأنَّ مَنْ حدَّثَ بحديثٍ عنِ النبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ - «يرىَ أنهُ كذبٌ فهُوَ أحدُ الكاذبِين» يَعْنَي إذا لمْ يُبينْ أنهُ مَكْذُوبٌ عنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ - سَواءٌ كانَ في العَقائدِ أو كانَ في الأحكامِ.
ولذلكَ لا يثبتُ عنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - ولا يترتَّبُ عَليهِ عَمَلٌ بالكليةِ، هَذا بِالنِّسبةِ لِلحديثِ الموضوعِ، وهُوَ المكذوبُ علَى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ـ سُمِّيَ مَوْضُوعًا لأنهُ وُضعَ عَلَى النبيِّ كَذِبًا عليهِ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ - وهُوَ مِنْ كبائرِ الذُّنوبِ وَعظائمِ الإثمِ.
أَمَّا الحديثُ الضعيفُ فالحديثُ الضَّعيفُ إِذا كانَ حديثًا لَيْسَ بِشديدِ الضَّعْفِ، لا هُوَ مكذُوبٌ ولا فيهِ مُتَّهَمٌ بالكذبِ مَتْروكٌ، فَهَذا إِذا كانَ ليسَ شديدَ الضَّعْفِ قدْ يَخْتلِفُ العُلَماءُ في إِثباتهِ، ومنهُ ما ذكرَ الأخُ مِنْ حديثِ: «اللهمَّ باركَ لَنا في رَجَبٍ وشعبانَ وبلِّغْنا رَمَضانَ» فقدِ اختلفَ العلماءُ في إِثْباتهِ، وَعامَّةِ العُلماءِ علَى ضعفهِ، مِثْلُ الحدِيثِ الضعيفِ يجوزُ العملُ بِهِ في فَضائِلِ الأَعمالِ، يعني لا تثبتُ في الأَحْكامِ وَلا العقائِدِ لكنْ يجوزُ العملُ بهِ في فَضائلِ الأعمالِ بشروطٍ:
- أَلا يكونُ شديدَ الضعفِ.
- أن يكون ما جاء فيهِ منْ فضيلةٍ ثبتَ معْناهُ مِنْ حَدِيثٍ آخرَ.
- الثالِثُ مِنَ الشروطِ أَلَّا يكونُ مُعْتَقِدًا ثُبوتُ ذلكَ عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - أوْ ثُبوتَ الأجرِ المضمِّنِ؛ لأنَّهُ لمْ يَثبُتْ عنِ النبيِّ، وَبالتالي لا يعتقدُ نسبتهُ إِلَيْهِ وَلا يَعتقدُ ثُبوتَ تَحْصيلِ الأجرِ المذكورِ في الحديثِ في فَضائلِ الأعمالِ.
المقدمُ: يَعْني يَكُونُ مِنْ بابِ الترهيبِ وَالتَّرغيبِ فَقطْ يا شِيخُ.
الشيخُ: نَعمْ، مِنْ بابِ الحثِّ عَلَى ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الأَدِلَّةُ الأُخْرَى، فَيستأنَسُ بِهِ، لكنْ لا يُعملُ بهِ، أَمَّا في الأَحْكامِ وَالعقائدِ فَلا يُعْملُ بهِ أَيْضًا، لكنْ مِنَ العُلَماءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ إِذا كانَ الحدِيثُ ضَعِيفًا وَتَضَمَّنَ أَمرًا فَإِنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى الاسْتِحْبابِ، وَإِذا كانَ يَتضَمَّنُ نَهْيًا يحمِلُ عَلَى الكراهةِ، بِهذا قالَ الجماعةُ مِنْ فُقَهاءِ الحنابِلَةِ والشافِعِيَّةِ.
المقدمُ: باركَ اللهُ فيكمْ يا شيْخَنا، الأَخُ محمدُ بيشهِ حياَّكَ اللهُ أَخِي محمدٌ.
المتصلُ: السلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ.
المقدمُ: وعليكمُ السلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ، تفضَّلْ.
المتصلُ: أدْعُو اللهَ - سُبْحانهُ وتَعالَى - أَنْ يَنْصُر جُنودَنا المرابِطينَ، وأنْ يَحفظَ لَنا هذهِ البلادَ، وأنْ يحفظَ لَنا قادتَنا وَعُلماءَنا.
صاحبَ الفَضِيلةِ السؤالُ مهمٌ جدًّا جدًّا، اللهُ يرضَى عنكمْ، يا أَصحابَ الفضيلةِ، قاطعُ الرحِمِ الَّذي يقطعُ رحمهُ، عِلمًا بأنَّهُ كبيرٌ في السنِّ ولديْهِ أَوْلادٌ، وأَصْبحَ جدًّا، وبعضهمْ عَلَى وَشْكِ.
الشيخُ: أي نعم، تفضَّلْ قلْ سُؤالكَ كَيْ أُجِيبَكَ.
المقدمُ: أَكْمِلْ سُؤالكَ ثُمَّ يُجيبُ الشيخُ إِنْ شاءَ اللهُ.
المتصلُ: اللهُ - سبحانهُ وَتعالَى - توعَّدَ لِذلكَ وَالرسولُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم - حثَّ عَلَى ذلكَ، صاحبَ الفضيلَةِ كلمتكمْ مِنْ الناحيةِ الشرعيةِ عِلْمًا بأنهمْ في مسجدِ يصلونَ وإمامهُمْ وَاحدٌ وهمْ في قريةٍ واحدةٍ، قريبٌ بعضهمْ مِنْ بعْضٍ، يسمعُون أَصْواتِ بعضهمْ في المنازلِ، ما توجيهُكَ لهمْ يا صاحبَ الفَضِيلةِ؟
المقدمُ: خَيرًا إِنْ شاءَ اللهُ، اللهمَّ اهْدِنا فيمنْ هديْتَ، شُكرًا لكَ أَخي محمد تستمعُ للإجابَةِ إِنْ شاءَ اللهُ، تفضلْ يا شيخَنا باركَ اللهُ فِيكَ.
الشيخُ: صِلَةُ الرَّحِمِ منَ الأَعْمالِ الجليلَةِ الَّتِي نَدَبَ إِليْها النبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - وأَمَرَ بِها في أَوائِلِ ما جاءَ بِالدَّعْوةِ المباركةِ؛ الدعوةُ إِلَى الإِسْلام، فإنَّهمْ أمرهُمْ بصلَةِ الأَرْحامِ، وأكَّدَ هَذا المعْنَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلهِ وسَلَّمَ عَلَى أصحابِهِ، حَتَّى أَصْبَحَ مِنْ مَظاهِرِ دِينِ الإِسْلامِ: الأَمْرُ بِصلةِ الأرْحامِ، وقدْ قالَ تعالَى في محكم كتابهِ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ النساءُ: 36 هَذا حقٌّ اللهِ - عزَّ وجلَّ - ثُمَّ قالَ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى﴾ النساء: 36 وبالوالدينِ إِحْسانًا أمَرَ بِالإحسانِ لِلوالديْنِ وخصَّهُما لأَنَّهما أعظمُ القُرباتِ حَقًّا، ثُمَّ قالَ: ﴿وَبِذِي الْقُرْبَى﴾ النساء: 36 أي: وبذي القرْبَى إِحْسانًا.
وقالَ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - في بيانِ فضيلةِ صِلةِ الرحمِ: «منْ كانَ يؤمنُ بِاللهِ واليومِ الآخرِ فليصلْ رَحِمَهُ»صحيحُ البُخاريِّ (6138) وَقالَ: «مَنْ أحبَّ أن يُبْسَطَ لهُ في رزقهِ وَفي أَجلِهِ فليصِلْ رَحِمهُ»صحيحُ البخاريِّ (5986)، وصَحِيحُ مُسْلمٍ (2557) وَالرزقُ يشملُ هُنا رزقٌ القُلوُبِ بالصلاحِ وَالاستقامةِ، وَرزقُ الأبدانِ بِالقوتِ وسائرِ ما يفتحُ اللهُ تعالَى مِنْ أنواعِ الأرزاقِ.
وقطيعةُ الرَّحمِ موجبة لعظيمِ العقُوبةِ؛ قالَ اللهُ ـ تعالَى ـ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ محمد: 22 - 23 .
وقدْ قالَ َعليُّ بْنِ الحسينِ لولدهِ: «يا بُني لا تَصحبِ المقاطعَ رحمهُ؛ فإنِّي وجدْتُهُ مَلْعُونًا في كِتابِ اللهِ في مَواضعَ»، ومِنْها هَذا الموضعُ قطعُ الرحمِ أَتَى ذَنْبًا عظِيمًا، وقدْ قالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلهِ وَسَلَّم - كَما في الترمِذِيِّ: «لا يَدْخُلُ الجنَّةَ قاطِعَ رَحِمٍ»صحيحُ مسلمٍ (2556).
ولو لمْ يرِدْ في عقوبةِ قطيعةِ الرَّحمِ إِلَّا أنهُ حاجزٌ عنْ دُخُولِ الجنةِّ لكانَ ذلكَ كافِيًا، فكيفَ والنَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلمَ - يخبرُ بِأَنَّ قاطِعَ الرحِمِ مَقْطوعُ الخيرِ؛ قالَ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - فِيما روتْهُ عائشةُ مِنْ قولِهِ: «الرحمُ معلقةٌ بالعرشِ تقولُ: مَنْ وَصَلَني وصلهُ اللهُ» يعْني بِالخيرِ والبرِّ في الدُّنْيا وَالآخرةِ، «ومنْ قَطعني قطعهُ اللهُ»صحيحُ مسلمٍ (2555) هَذا خبرٌ أوْ دُعاءٌ مِنَ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - علَى القاطعِ وللواصل.ِ
فينبغِي للمؤمنِ أَنْ يتجنَّبَ القطيعةَ ونقولُ: المبادرةُ بِالإحسانِ وَالصبرِ عَلَى أَذَى الأقاربِ مِمَّا يجعلُ العبدَ مَنْصُورًا علَى كُلِّ خُصُومهِ، وَقَدْ قالَ رَجُلٌ كَما في صَحِيحِ مسلمٍ منْ حَدِيثِ أَبي هُريرَةَ أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - فقالَ: «يا رَسوُلُ اللهِ، إِنَّ لي قرابةً أصلهُمْ ويقطْعوني، وأُحسنُ إِليهمْ ويُسيئونَ إليَّ، وأَحْلُمُ عنهُمْ ويجهَلُون علَيَّ» يعني كُلَّ أَوْجُهِ الإِساءةِ أجدُها منهمْ، وَكُلُّ أَوْجُهِ الإِحْسانِ تصلهمْ مَنْ هَذا الرجُلُ، فَقالَ النبيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ -: «لئنْ كُنتَ كَما قلتَ فكأنَّما تُسِفُّهُمُ الملَّ» يَعْنِي تُطْعِمُهُم الرمادَ الحارَ، وَهَذا بيانٌ أنهُ تَقُومُ عليهمُ الحجَّةُ، وَلا يَزْدادُون بِذَلِكَ إِلَّا سُوءًا، ثُمَّ يُقَالُ: «وَلا يزالُ معكَ مِنَ اللهِ ظهيرٌ عَليهمْ مادُمْت عَلَى ذلِكَ»صَحيحُ مُسْلِمٍ (2558) يَعْني أنًَّ اللهَ سيُظهرُكَ وينصرُكَ ويؤيِّدُكَ ويُمدُّكَ ويعِينُكَ، هَذا في الدُّنيا معجلًا، وفي الآخرةِ بالثوابِ والعطاءِ الجزيلِ منْ ربٍّ يُعطي علَى القليلِ الكثيرَ.
وليعلمِ الأخُ وكُلُّ مُتابعٍ منْ ذكرٍ أَوْ أُنْثَى أَنَّ الوصْلَ ليسَ بِالمقابلَةِ باِلإِحْسانِ؛ يعْني إِذا أَحْسَنَ إِليكَ أحدُ أرحامِكَ أَحْسنتَ، وَإِذا قطعكَ قَطَعْتَ، وَلا تُحْسِنُ إِلَّا إِذا أحْسَنَ، فَأَنْتَ لَسْتَ وَاصِلًا؛ قالَ النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - : «ليسَ الواصِلُ بِالمكافئ، ولكنَّ الواصلَ إِذا قطعتْ رحمهُ وصَلَها» يعْني الواصلُ بدرجتهِ الكامِلَةِ الَّتي يعظمُ أجرهُ ويكبرُ عَطاءُ الله تعالَى لهُ هُوَ مَنْ كانَ علَى هذهِ الحالِ، «ليْسَ الواصِلُ بِالمكافِئِ» يَعْنِي الَّذِي يقابلُ إِحْسانَ قَرابتهِ بإحْسانٍ، «وَإِنما الواصلُ الَّذي إِذا قطعتْ رِحَمَهُ وَصَلَها»صحيحُ البُخاريِّ (5991).
المقدم: باركَ اللهُ فيكم شيخ خالد، ولعلكمْ أيضًا تأتونَ إِلَى شيءٍ منْ هَذا الحديثِ الذي ذكرتمُوه فيما يتعلقُ بصلةِ الأرحامِ، قدْ يتعذرُ علَى المرءِ الذهابُ أوْ زيارةُ أَرحامِهِ، تَعْلَمُون أنَّ هذهِ البِلاد المباركة متراميةُ الأطرافِ وقدْ يشقُّ عليهِ أَنْ يذهبُ مِنْ مَنطقةٍ إِلَى مِنْطقةٍ أُخرى، فَهَلْ يَكْتَفِي بشيءٍ مِنَ الاتِّصالِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ هَذا الأَمْر يُغْنِيهِ عَنِ الزيارَةِ الفعليةِ أوِ الحضُورِ الفِعلِيِّ؟
الشيخُ: الوصلُ يختلِفُ بِاخْتِلافِ أحوالِ الناسِ وَقُرْبهمْ وَبُعدهمْ، وَأَيْضًا درَجَةُ القرابَةِ وَحُضُورُ الإِنْسانِ وَغِيابهُ، ثَمَّة اعْتباراتٌ كثيرةٌ، لكنْ في الجملةِ الوصلُ هُوَ إيصالُ كلِّ إِحسانٍ ممكنٍ، وذلكَ يختلفُ باختلافِ اعْتباراتٍ عديدةٍ، فالَّذي لا يستطيعُ أنْ يسافرَ لصلةِ الأَرحام يمكنهُ أَنْ يتصِلَ، الَّذِي يتَعذَّرُ عليهِ الاتصالُ يمكنهُ أنْ يبعثَ بالسلامِ، أنْ يبعثَ هدايا، أنْ يدعُو لقرابتِهِ بخيرٍ، كلُّ هَذِه منْ أوجهِ وأبوابِ الوصلِ الَّتي ينبغِي أنْ يطرقَها الإنسانُ، واليومُ لا يعجزُ عَنِ الوصْلِ إلا عاجزٌ يذكرُ أسبابَ القربِ، الآنَ يا أخِي يتواصلُ الناسُ عبرَ وَسائِلِ التواصُلِ الاجتماعِيِّ معَ أَقاصي الناسِ بشرقِ الدُّنْيا وغربِها وشمالها وجنُوبِها ممنْ يُوافقونهُمْ في اللغةِ وممنْ لا يُوافقُونَ مِنْ كُلِّ الأعْرافِ والأجْناسِ، وليسَ ثمةَ ما يربِطُهُمْ، أَحْيانًا يَنْشَطُ بُعْضُ الناسِ لمثلِ هذهِ الأنواعِ منَ التواصلِ، لكنِ عمهُ أو خالُهُ أوْ ابْن عمهِ أوْعمتهِ أو خالتِهِ تجدهُ غافِلًا عنهمْ، يمكنُ لهُ سَنتانِ أوْ سنواتٌ ما يدرِي عنهمْ وَلا يتصلُ بهمْ وَلا يَسْألُ عنهمْ وَلا حتىَّ بعثَ رِسالةَ سلامٍ يطيبُ بهِ الصلةَ بقرابتهِ، وقدْ قالَ النبيُّ - صلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم - في بيانِ أَوْجُهِ الصلةِ التي تكونُ بينَ القرابات:ِ «بلُّوا أرحامكم ولو بالسلام»ابن حبان (4/324) هذا الحديث تكلم عنه بعض أهل العلم، لكن هو بيان لأدني ما يكون مما يتواصل به الإنسان مع قرابته؛ أن يبعث السلام، سلِّم لي على فلان، بلغ سلامي لفلان وما أشبه ذلك مما يتحقق به التواصل بين الإنسان وقرابته.
والإشكالية يا أخي محمد، أحيانًا يغفل الإنسان أي لا يعرف أهمية الصلة ووجوب العناية بها، وقد يعرف بذلك ولا يذكر ولا نبه إلى العناية برحمه فتجده يغفل عن كل أوجه التواصل المبارك مع قرابته وذويه، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ما فيه الخير، وأن يجعلنا من الواصلين المبادرين بكل بر للقريب والبعيد.
المقدم: شيخنا بارك الله فيكم، قبل الختام، هذه متصلة بعثت برسالتها تقول: لا تريد إظهار صوتها، هي تسأل تقول: ما حكم أداء صلاة التراويح في البيت للمرأة من دون عذر؟ هي تريد أن تصلي صلاة التراويح في بيتها؛ فهل عليها شيء؟
الشيخ: لا، ليس عليها شيء، صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد، هذا هو الأصل في الفرائض وفي غيرها، لكن إن نشطت وذهبت إلى المسجد أو كان المسجد أنشط لها فالحمد لله، الصحابيات كن يصلين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن الأفضل بالنسبة لصلاة المرأة تصلي في بيتها، فما سألت عنه أن تصلي في بيتها هي على خير إن شاء الله أن يتقبل منها.
المقدم: وصلنا شيخ خالد بارك الله فيك إلى نهاية هذا اللقاء، والكلمة الأخيرة إليكم حفظكم الله.
الشيخ: أوصي إخواني وأخواتي بما تكلمنا عنه في مبدأ حديثنا في هذه الحلقة بضرورة العناية بتحقيق مقاصد الصيام من زكاء الأخلاق وصلاح الأعمال وطيب القلب، وأن يكون لنا عناية بكل الأعمال الصالحة، أن لا نقتصر فيها على الصور والمظاهر، بل نعتني بالمقاصد والغايات.
يا إخواني إنما شرع الله لنا الصيام لنحقق التقوى، والتقوى صلاح قلب وسداد قول واستقامة عمل، صلاح قلب وسداد قول، يكون الكلام طيبًا وبعيدًا عن الرديء واستقامة عمل، أسأل الله العليم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم التقوى سرًّا وعلنًا، ظاهرًا وباطنًا، وأن يعمر قلوبنا بما يحب ويرضى، وأن يوفقنا إلى الصيام الذي يرضى به عنا، وأسأل الله تعالى أن يوفق ولاة أمرنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وأن يجعل لهم من لدنه سلطانًا نصيرًا، وأن يرفع عن بلادنا كيد الكائدين ودعاية المغرضين، وأن يجمع كلمتنا على الحق، وأن يوفق جنودنا المقاتلين والمرابطين على أمننا، سدد الله هذه البلاد وعم بالخير سائر بلاد المسلمين والبشرية جمعاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: شكر الله لكم فضيلة الشيخ الدكتور/ خالد المصلح؛ أستاذ الشريعة بجامعة القصيم على ما أفضتم في ثنايا هذه الحلقة في "ينابيع الفتوى" حول حقيقة صوم ومقصوده.
أيضًا أنتم مستمعينا الكرام الشكر موصول لكم على طيب المتابعة والإنصات، موعدنا يتجدد بكم غدًا في مثل هذا الوقت إن شاء الله على إطْلاعكم على ما يهم المسلم في شئونه في شهر رمضان المبارك.
في الختام، هذه أطيب تحية مني محمد القرني ومصطفى الصحفي من الإخراج، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.