قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"
سؤالك يا هذا سؤال معاند * * * مخاصم رب العرش باري البرية
فهذا سؤال خاصم الملأ العلا * * * قديما به إبليس أصل البلية
ومن يك خصما للمهيمن يرجعن * * * على أم رأس هاويا في الحفيرة
ويدعى خصوم الله يوم معادهم * * * إلى النار طرا معشر القدرية
سواء نفوه ، أو سعوا ليخاصموا * * * به الله أو ماروا به للشريعة
وأصل ضلال الخلق من كل فرقة * * * هو الخوض في فعل الإله بعلة
فإنهمو لم يفهموا حكمة له * * * فصاروا على نوع من الجاهلية
فإن جميع الكون أوجب فعله * * * مشيئة رب الخلق باري الخليقة
وذات إله الخلق واجبة بما * * * لها من صفات واجبات قديمة
مشيئته مع علمه ثم قدرة * * * لوازم ذات الله قاضي القضية
وإبداعه ما شاء من مبدعاته * * * بها حكمة فيه وأنواع رحمة
ولسنا إذا قلنا جرت بمشيئة * * * من المنكري آياته المستقيمة
بل الحق أن الحكم لله وحده * * * له الخلق والأمر الذي في الشريعة
هو الملك المحمود في كل حالة * * * له الملك من غير انتقاص بشركة
فما شاء مولانا الإله فإنه * * * يكون وما لا لا يكون بحيلة
وقدرته لا نقص فيها وحكمه * * * يعم فلا تخصيص في ذي القضية
أريد بذا أن الحوادث كلها * * * بقدرته كانت ومحض المشيئة
ومالكنا في كل ما قد أراده * * * له الحمد حمدا يعتلي كل مدحة
فإن له في الخلق رحمته سرت * * * ومن حكم فوق العقول الحكيمة
أمورا يحار العقل فيها إذا رأى * * * من الحكم العليا وكل عجيبة
فنؤمن أن الله عز بقدرة * * * وخلق وإبرام لحكم المشيئة
فنثبت هذا كله لإلهنا * * * ونثبت ما في ذاك من كل حكمة
وهذا مقام طالما عجز الأولى * * * نفوه وكروا راجعين بحيرة
وتحقيق ما فيه بتبيين غوره * * * وتحرير حق الحق في ذي الحقيقة
هو المطلب الأقصى لوراد بحره * * * وذا عسر في نظم هذي القصيدة
لحاجته إلى بيان محقق * * * لأوصاف مولانا الإله الكريمة
وأسمائه الحسنى وأحكام دينه * * * وأفعاله في كل هذي الخليقة
وهذا بحمد الله قد بان ظاهرا * * * وإلهامه للخلق أفضل نعمة
وقد قيل في هذا وخط كتابه * * * بيان شفاء للنفوس السقيمة
فقولك : لم قد شاء ؟ مثل سؤال من * * * يقول : فلم قد كان في الأزلية
وذاك سؤال يبطل العقل وجهه * * * وتحريمه قد جاء في كل شرعة
وفي الكون تخصيص كثير يدل من * * * له نوع عقل أنه بإرادة
وإصداره عن واحد بعد واحد * * * أو القول بالتجويز رمية حيرة
ولا ريب في تعليق كل مسبب * * * بما قبله من علة موجبية
بل الشأن في الأسباب أسباب ما ترى * * * وإصدارها عن الحكم محض المشيئة
وقولك : لم شاء الإله ؟ هو الذي * * * أزل عقول الخلق في قعر حفرة
فإن المجوس القائلين بخالق * * * لنفع ورب مبدع للمضرة
سؤالهم عن علة السر أوقعت * * * أوائلهم في شبهة الثنوية
وإن ملاحيد الفلاسفة الأولى * * * يقولون بالفعل القديم لعلة
بغوا علة للكون بعد انعدامه * * * فلم يجدوا ذاكم فضلوا بضلة
وإن مبادي الشر في كل أمة * * * ذوي ملة ميمونة نبوية
بخوضهمو في ذاكم صار شركهم * * * وجاء دروس البينات بفترة
ويكفيك نقضا أن ما قد سألته * * * من العذر مردود لدى كل فطرة
فأنت تعيب الطاعنين جميعهم * * * عليك وترميهم بكل مذمة
وتنحل من والاك صفو مودة * * * وتبغض من ناواك من كل فرقة
وحالهم في كل قول وفعلة * * * كحالك يا هذا بأرجح حجة
وهبك كففت اللوم عن كل كافر * * * وكل غوي خارج عن محبة
فيلزمك الإعراض عن كل ظالم * * * على الناس في نفس ومال وحرمة
ولا تغضبن يوما على سافك دما * * * ولا سارق مالا لصاحب فاقة
ولا شاتم عرضا مصونا وإن علا * * * ولا ناكح فرجا على وجه غية
ولا قاطع للناس نهج سبيلهم * * * ولا مفسد في الأرض في كل وجهة
ولا شاهد بالزور إفكا وفرية * * * ولا قاذف للمحصنات بزنية
ولا مهلك للحرث والنسل عامدا * * * ولا حاكم للعالمين برشوة
وكف لسان اللوم عن كل مفسد * * * ولا تأخذن ذا جرمة بعقوبة
وسهل سبيل الكاذبين تعمدا * * * على ربهم من كل جاء بفرية
وإن قصدوا إضلال من يستجيبهم * * * بروم فساد النوع ثم الرياسة
وجادل عن الملعون فرعون إذ طغى * * * فأغرق في اليم انتقاما بغضبة
وكل كفور مشرك بإلهه * * * وآخر طاغ كافر بنبوة
كعاد ونمروذ وقوم لصالح * * * وقوم لنوح ثم أصحاب أيكة
وخاصم لموسى ثم سائر من أتى * * * من الأنبياء محييا للشريعة
على كونهم قد جاهدوا الناس إذ بغوا * * * ونالوا من المعاصي بليغ العقوبة
وإلا فكل الخلق في كل لفظة * * * ولحظة عين أو تحرك شعرة
وبطشة كف أو تخطي قديمة * * * وكل حراك بل وكل سكينة
همو تحت أقدار الإله وحكمه * * * كما أنت فيما قد أتيت بحجة
وهبك رفعت اللوم عن كل فاعل * * * فعال ردى طردا لهذي المقيسة
فهل يمكن رفع الملام جميعه * * * عن الناس طرا عند كل قبيحة ؟
وترك عقوبات الذين قد اعتدوا * * * وترك الورى الإنصاف بين الرعية
فلا تضمنن نفس ومال بمثله * * * ولا يعقبن عاد بمثل الجريمة
وهل في عقول الناس أو في طباعهم * * * قبول لقول النذل ما وجه حيلتي ؟
ويكفيك نقضا ما بجسم ابن آدم * * * صبي ومجنون وكل بهيمة
من الألم المقضي في غير حيلة * * * وفيما يشاء الله أكمل حكمة
إذا كان في هذا له حكمة فما * * * يظن بخلق الفعل ثم العقوبة ؟
وكيف ومن هذا عذاب مولد * * * عن الفعل فعل العبد عند الطبيعة ؟
كآكل سم أوجب الموت أكله * * * وكل بتقدير لرب البرية
فكفرك يا هذا كسم أكلته * * * وتعذيب نار مثل جرعة غصة
ألست ترى في هذه الدار من جنى * * * يعاقب إما بالقضا أو بشرعة ؟
ولا عذر للجاني بتقدير خالق * * * كذلك في الأخرى بلا مثنوية
وتقدير رب الخلق للذنب موجب * * * لتقدير عقبى الذنب إلا بتوبة
وما كان من جنس المتاب لرفعه * * * عواقب أفعال العباد الخبيثة
كخير به تمحى الذنوب ودعوة * * * تجاب من الجاني ورب شفاعة
وقول حليف الشر إني مقدر * * * علي كقول الذئب هذي طبيعتي
وتقديره للفعل يجلب نقمة * * * كتقديره الأشياء طرا بعلة
فهل ينفعن عذر الملوم بأنه * * * كذا طبعه أم هل يقال لعثرة ؟
أم الذم والتعذيب أوكد للذي * * * طبيعته فعل الشرور الشنيعة ؟
فإن كنت ترجو أن تجاب بما عسى * * * ينجيك من نار الإله العظيمة
فدونك رب الخلق فاقصده ضارعا * * * مريدا لأن يهديك نحو الحقيقة
وذلل قياد النفس للحق واسمعن * * * ولا تعرضن عن فكرة مستقيمة
وما بان من حق فلا تتركنه * * * ولا تعص من يدعو لأقوم شرعة
ودع دين ذا العادات لا تتبعنه * * * وعج عن سبيل الأمة الغضبية
ومن ضل عن حق فلا تقفونه * * * وزن ما عليه الناس بالمعدلية
هنالك تبدو طالعات من الهدى * * * تبشر من قد جاء بالحنيفية
بملة إبراهيم ذاك إمامنا * * * ودين رسول الله خير البرية
فلا يقبل الرحمن دينا سوى الذي * * * به جاءت الرسل الكرام السجية
وقد جاء هذا الحاشر الخاتم الذي * * * حوى كل خير في عموم الرسالة
وأخبر عن رب العباد بأن من * * * غدا عنه في الأخرى بأقبح خيبة
فهذي دلالات العباد لحائر * * * وأما هداه فهو فعل الربوبية
وفقد الهدى عند الورى لا يفيد من * * * غدا عنه بل يجري بلا وجه حجة
وحجة محتج بتقدير ربه * * * تزيد عذابا كاحتجاج مريضة
وأما رضانا بالقضاء فإنما * * * أمرنا بأن نرضى بمثل المصيبة
كسقم وفقر ثم ذل وغربة * * * وما كان من مؤذ بدون جريمة
فأما الأفاعيل التي كرهت لنا * * * فلا ترتضى مسخوطة لمشيئة
وقد قال قوم من أولي العلم لا رضا * * * بفعل المعاصي والذنوب الكبيرة
وقال فريق نرتضي بقضائه * * * ولا نرتضي المقضي أقبح خصلة
وقال فريق نرتضي بإضافة * * * إليه وما فينا فنلقي بسخطة
كما أنها للرب خلق وإنها * * * لمخلوقه ليست كفعل الغريزة
فنرضى من الوجه الذي هو خلقه * * * ونسخط من وجه اكتساب الخطيئة
ومعصية العبد المكلف تركه * * * لما أمر المولى وإن بمشيئة
فإن إله الخلق حق مقاله * * * بأن العباد في جحيم وجنة
كما أنهم في هذه الدار هكذا * * * بل البهم في الآلام أيضا ونعمة
وحكمته العليا اقتضت ما اقتضت من * * * الفروق بعلم ثم أيد ورحمة
يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي * * * يقدره نحو العذاب بعزة
ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم * * * بأعمال صدق في رجاء وخشية
وأمر إله الخلق بين ما به * * * يسوق أولي التنعيم نحو السعادة
فمن كان من أهل السعادة أثرت * * * أوامره فيه بتيسير صنعة
ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل * * * بأمر ولا نهي بتقدير شقوة
ولا مخرج للعبد عما به قضي * * * ولكنه مختار حسن وسوأة
فليس بمجبور عديم الإرادة * * * ولكنه شاء بخلق الإرادة
ومن أعجب الأشياء خلق مشيئة * * * بها صار مختار الهدى بالضلالة
فقولك : هل اختار تركا لحكمة ؟ * * * كقولك : هل اختار ترك المشيئة ؟
وأختار أن لا اختار فعل ضلالة * * * ولو نلت هذا الترك فزت بتوبة
وذا ممكن لكنه متوقف * * * على ما يشاء الله من ذي المشيئة
فدونك فافهم ما به قد أجبت من * * * معان إذا انحلت بفهم غريزة
أشارت إلى أصل يشير إلى الهدى * * * ولله رب الخلق أكمل مدحة
وصلى إله الخلق جل جلاله * * * على المصطفى المختار خير البرية
"مجموع الفتاوى" ( 8/246- 255).