قوله - رحمه الله-: «ودين الله تعالى في السماء والأرض واحد .... » ختم المؤلف - رحمه الله- جملة ما ذكره من عقائد أهل السنة والجماعة ببيان الإسلام؛ لئلا يتوهم متوهم أن وصف السنة والجماعة والانتساب إليها انتساب لغير الإسلام. فأهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام، أهل الحق الصافي، «هم نقاوة المسلمين، هم الصفوة، و الخيار، وهم الذين قال الله - جل وعلا- فيهم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (سورة آل عمران: 110) وينظر: «مجموع الفتاوى» (3/ 156) .
وقوله: «ودين الله تعالى في السماء والأرض واحد، وهو دين الإسلام» أي: إن ما يتعبد الله به في الظاهر والباطن، وفي الاعتقاد والعمل، واحد من حيث أصله، يدين به لله – تعالى- أهل السماوات وأهل الأرض، وذلك الدين هو الإسلام، وهو الاستسلام له بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والخلوص والبراءة من الشرك وأهله، قال –تعالى-: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} (سورة الزخرف: 84.) ، أي: إنه المعبود الحق في السماء والأرض، لا معبود حق غيره، فدين الإسلام هو الدين الحق الذي رضي الله تعالى للعالمين، قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (سورة آل عمران: 19.) ، وهذا أول ما ذكره مؤلفه من الأدلة، واستدل أيضا بقوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} (سورة آل عمران: 85) فكل من طلب طريقا يحقق به العبودية لله- تعالى- والاستسلام له، غير دين الإسلام، فلن يقبله الله- تعالى- منه، بل هو مردود عليه غير مرضي، فقد سد الله- تعالى- الطرق الموصلة إليه غير طريق الإسلام، واستدل أيضا بقوله- تعالى-: {ورضيت لكم الإسلام دينا} (سورة المائدة: 3) ، وهذا تخصيص لهذه الأمة، بأن الله لم يرض لها سوى هذا الدين، وأنه قد بلغه الكمال في الاعتقاد والعمل. وقد سمى الله- تعالى- دين الأنبياء بالإسلام، فقال- تعالى-: {هو سماكم المسلمين من قبل} (سورة الحج: 78.) ، وقال عن إبراهيم - عليه السلام -: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} (سورة آل عمران: 67.) ، وأخبر أن نوحا - عليه السلام - قال في خطابه لقومه: {فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين} (سورة يونس: 72) ، وأخبر أن موسى - عليه السلام - قال في خطابه لبني إسرائيل: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين} (سورة يونس: 84.) ، فالإسلام هو دين جميع النبيين والمرسلين، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» ("صحيح البخاري" (3443)، ومسلم (2365) .
قوله- رحمه الله-: «وهو بين الغلو والتقصير» أي: إن دين الإسلام وسط، في جميع الأمور اعتقادا وعملا وأهله متوسطون في جميع أمورهم، قال الله – تعالى-: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} البقرة: 143 ؛ أي: عدلا خيارا، ولما كان أهل السنة والجماعة هم أهل الإسلام الصافي الحق الخالص من الشوب كانوا أهل وسط في اعتقاداتهم وأعمالهم. فطريقة أهل السنة والجماعة طريق وسط لا غلو فيه ولا تقصير. والغلو: هو الزيادة ومجاوزة الحد، ومنه: غلا السعر: إذا زاد وجاوز الحد، وهو هنا بمعنى مجاوزته الشرع بتشديد أو مبالغة أو إفراط، وضده التقصير، وهو ترك القيام بالمطلوب. وقد نهى الله- جل وعلا- عن الغلو والزيادة، فقال تعالى: {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} [النساء: 171] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» (أخرجه أحمد (1/ 347)، والنسائي (5/ 268) ح/ (3057)، وابن ماجه (3029) ،وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» (أخرجه مسلم في العلم (2670) ، وفي «الصحيحين» عن أنس - رضي الله عنه - قال: واصل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر، وواصل أناس من الناس فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو مد بي الشهر لواصلت وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقين» ("صحيح البخاري" (7241)، ومسلم (1104) ، وكذلك في البخاري عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» ("صحيح البخاري" (39) ، وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وإياكم والتنطع والتبدع والتعمق، وعليكم بالعتيق» (أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (1/ 324)، ويروى عن معاذ بن جبل، وابن عباس.) . فالتقصير في الدين، هو التواني فيه وعدم القيام بما طلب في الفعل إيجادا، وفي النهي تركا، وقد جاء النهي عن التقصير في مواضع عديدة، من ذلك قوله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (سورة البقرة: 229.) ، وقال تعالى: {تلك حدود الله فلا تقربوها} (سورة البقرة: 187.) . وقوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7] ، وقوله تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} [النساء: 64]، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} [البقرة: 208] ، وغير ذلك كثير. والأحاديث والآثار الواردة في النهي عن الغلو وعن التقصير كثيرة، فإن كل معصية في اعتقاد أو قول أوعمل، هي من التقصير الذي نهى الله عنه.
قوله- رحمه الله-: «وبين التشبيه والتعطيل» أي: إن دين الله تعالى في باب ما أخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وسط، بين التمثيل الناتج عن الغلو في إثبات الصفات، وبين التعطيل الناتج عن الاشتغال بالتأويلات الفاسدة التي فيها الجفاء والتقصير في الإيمان بها والتزام ما وردت به النصوص. فأهل السنة والجماعة - وهم أهل الإسلام الخالص - سالمون من هاتين البدعتين: بدعة التشبيه - وهي تمثيل الله تعالى بخلقه -، وبدعة التعطيل - وهي نفي ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ، إما نفيا كليا أو نفيا جزئيا- وقد نفى الله تعالى هاتين الضلالتين في أسمائه وصفاته، فقال تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (سورة الشورى: 11) . وقوله- تعالى-: {ليس كمثله شيء} نفي لبدعة التمثيل، وقوله: {وهو السميع البصير} نفي لبدعة التعطيل، فأهل الإسلام - أهل السنة والجماعة- يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تعطيل ولا تمثيل إثباتا لصفات الكمال على الوجه اللائق بالله تعالى، وينفون أن يكون له مثيل فيها أو نظير أو سمي، كما قال تعالى: {ليس كمثله شيء}.
قوله - رحمه الله -: «وبين الجبر والقدر» أي: إن دين الله تعالى في باب أفعال الله تعالى وسط بين الجبرية النافين لحكمة الله وعدله، وبين القدرية المكذبين بالقدر. فأهل السنة والجماعة وسط بين من يقول: لا مشيئة للإنسان ولا اختيار، وهم الجبرية، وبين من يقول: بأن الإنسان يخلق فعل نفسه، وليس لله - عز وجل - مشيئة في ذلك، ولا اختيار ولا قدرة. فأهل السنة والجماعة يثبتون للعبد قدرة وكسبا ومشيئة، ويثبتون أن هذه القدرة، وهذه المشيئة، وهاذا الكسب لا يخرج عن تقدير الله - جل وعلا - ومشيئته، بل الله محيط بالعبد ومشيئته وقدرته، والعبد مخلوق للرب كما أن ذاته وصفاته مخلوقة للرب - جل وعلا-. ويقولون كما قال الله- جل وعلا-: {لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين} (سورة التكوير: 28 - 29.) .
قوله - رحمه الله -: «وبين الأمن والإياس» أي: إن دين الله تعالى في باب الخوف والرجاء، وسط بين الأمن من مكر الله وعقابه وبين القنوط من رحمة الله ومغفرته، فإن الله تعالى ذم كلا السبيلين، قال الله تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يامن مكر الله إلا القوم الخاسرون} (سورة الأعراف: 99.) ، فقضى بالخسار على من أمن من مكره على أي حال كان. قال الحسن البصري: «المؤمن يعمل بالطاعات، وهو مشفق وجل خائف، والعاصي يعمل بالمعاصي، وهو آمن». وقال تعالى في اليأس: {ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} (سورة يوسف: 87.) . فقد قضى بالكفر على من قنط من رحمته، فإنه لا يقنط من رحمته إلا من جحد قدرته على ما يشاء، قال تعالى: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} (سورة الحجر: 56.) . فمسلك أهل التقوى والدين بين هذين، فلا أمن من مكر الله وأخذه، ولا قنوط من رحمته وروحه، وقد تقدم بسط هذا فيما سبق.