قوله - رحمه الله -: «وفي دعاء الأحياء للأموات وصدقاتهم منفعة للأموات» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن دعاء الأحياء للموتى وتصدقهم عنهم بأنواع الصدقات من تبرعات أو أوقاف أو غير ذلك مما ينتفع به الأموات، وصلة هذه المسألة بمسائل الفروع والعمل أوثق من مسائل العقائد، ولعل المؤلف ذكرها ردا على من قال من أهل البدع بأنه لا ينتفع الأموات من عمل الأحياء بشيء مطلقا، وقد نقله النووي وقال عنه:"فهومذهب باطل قطعا وخطأ بين مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا التفات إليه، ولا تعريج عليه" ("شرح مسلم" (1/ 25) . وقد ذكر المؤلف نوعين من العمل مما ينتفع بهما الأموات؛ الأول: دعاء الأحياء للأموات. والثاني: الصدقات. أما دعاء الأحياء للأموات فقد حكى الإجماع غير واحد من أهل العلم على أنه ينتفع به الأموات، قال النووي رحمه الله:" أجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه" (ينظر:"الأذكار"للنووي ص (164) ، وقال ابن كثير - رحمه الله -:" فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص عليهما من الشارع" ("تفسير ابن كثير" (7/ 465) . واستدلوا لذلك بأدلة من الكتاب منها ما ذكر الله من دعاء المؤمنين لمن سبقهم من إخوانهم، كما في قوله تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} سورة الحشر:10
واستدلوا بالأدعية النبوية المأثورة في الصلاة على الميت التي شرعت للدعاء له، وكذلك الدعاء له بعد دفنه، كما في حديث عثمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت» (أخرجه أبو داود (3221)، وقال الحاكم (1/ 526):"صحيح الإسناد ") ، وكذلك ما جاء في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فقال: «استغفروا لأخيكم» ("صحيح البخاري" (1327)، ومسلم (951) ، وكذلك الدعاء المأثور عند زيارة المقابر فيما رواه مسلم من حديث بريدة، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى المقابر قال: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» (أخرجه مسلم (975) . وكذلك دعاؤه - صلى الله عليه وسلم - لأهل بقيع الغرقد كما في "الصحيحين" من حديث عائشة: «اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» (أخرجه مسلم (974) . وكذلك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» ((1631) .
ومثله ما رواه أحمد عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله - عز وجل - ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك» ("مسند أحمد" (2/ 509)،وابن ماجه (3660)، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 351):"رجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة وقد وثق".) ، والنصوص في ذلك كثيرة يصعب حصرها.
وقوله: «وصدقاتهم منفعة للأموات» هذا هو العمل الثاني الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - من أعمال الأحياء التي ينتفع به الأموات، وهو تصدق الحي عن الميت، والصدقة هي ما يبذله صاحبه من المال طلبا للثواب، ويشمل كل إخراج بأي صفة، ومن أي مال، وقد حكي الإجماع على انتفاع الأموات بذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:"فلا نزاع بين علماء السنة والجماعة في وصول ثواب العبادات المالية كالصدقة والعتق كما يصل إليه أيضا الدعاء والاستغفار والصلاة عليه صلاة الجنازة والدعاء عند قبره"ــ ("مجموع الفتاوى" (24/ 366) . وقد جاء ما يدل على ذلك في عدد من الأحاديث منها ما رواه البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم تصدق عنها» ("صحيح البخاري" (2790) . و مثله ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن أبي مات وترك مالا ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه قال «نعم» ("صحيح مسلم" (1630) . ومثله ما رواه البخاري من حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - توفيت أمه، وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت، وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: «نعم» قال: «فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها» ("صحيح البخاري" (2756) .
ومما حكي الإجماع عليه انتفاع الميت بقضاء الأحياء ديونهم وأداء الواجبات عنهم إذا كانت الواجبات مما تدخله النيابة، قال ابن قدامة - رحمه الله -:" أما الدعاء، والاستغفار، والصدقة، وأداء الواجبات، فلا أعلم فيه خلافا إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة" ("المغني" (2/ 427) . وقد دلت على ذلك الأدلة، فمن ذلك ما جاء في البخاري من حديث ابن عباس في المرأة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» ("صحيح البخاري" (1852) ، ومن ذلك ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه - قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، فقال: «وجب أجرك وردها عليك الميراث» قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها» قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: «حجي عنها» ("صحيح مسلم" (1149) . ومنها ما في «الصحيحين» من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات، وعليه صيام صام عنه وليه» ("صحيح البخاري" (1952)، ومسلم (1147) .
أما ما عدا ما تقدم من الأعمال فقد اختلف الفقهاء فيها، فمنهم من ألحق سائر الأعمال البدنية بما جاءت به النصوص، فقالوا:" كل عمل صالح فعله وجعل ثوابه للميت نفعه ذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فأجاب، ولم يقصر جوابه على صورة السؤال ليمنع غيره، وبهذا قالت الحنفية والحنابلة وبعض المالكية، وهو أحد القولين عند الشافعي. وذهب جماعة من أهل العلم إلى عدم الإلحاق، وأنه لا ينتفع الأموات من عمل الأحياء إلا بما جاء به النص فقط، فلا يلحق به غيره، واستدلوا لذلك بعدة أدلة من أبرزها قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} (سورة النجم: 39.) ، والاستدلال بهذه الآية غير مسلم، فإن الآية لا تدل على عدم انتفاع الإنسان بسعي غيره، وإنما تدل على أن الإنسان لا يملك إلا سعي نفسه، ثم إنه إذا ملك سعي نفسه، فإن له أن يتصرف فيه بما شاء من هبته لغيره، كما دلت عليه الأدلة السابقة. ومما يدل على انتفاع الإنسان بسعي غيره، في الجملة أيضا قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء} (سورة الطور:21.) ، ووجهه أن الأولاد انتفعوا بسعي آبائهم حيث ألحقوا بآبائهم في درجات أعلى من عملهم بسبب صلاح الآباء.
ومما استدل به المانعون من انتفاع الأموات بعمل الأحياء إلا ما ورد به النص، قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» (أخرجه مسلم (1631) ، فيقال لهم إن هذا يفيد أن عمل الإنسان ينقطع بموته، وليس فيه خبر عن قطع انتفاعه بعمل غيره، بل أفاد أن الإنسان ينتفع بعمل غيره حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «أو ولد صالح يدعو له».
وقوله: «وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات» خص الأموات بالانتفاع من دعاء الأحياء وصدقاتهم، مع أن الأحياء ينتفعون من دعاء غيرهم بالاتفاق؛ لأن الأموات قد انقطع عملهم، فتبين أن انقطاع العمل لا يستلزم انقطاع الانتفاع؛ ولأن السؤال الذي وجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عن انتفاع الميت بعمل الحي في الصدقة والحج، والصوم عنه، كما أن الخلاف في انتفاع الأحياء من سعي غيرهم أقوى، فإن من العلماء من يرى أن الحي لا ينتفع بعمل غيره مطلقا، وإن كان يجيز أن ينتفع الميت بذلك.
قوله - رحمه الله -: «والله تعالى يستجيب الدعوات، ويقضي الحاجات» أي: إن الله – تعالى- من شأنه أن يعطي السائلين ما سألوه، ويبلغ كل ذي غاية غايته ومراده إذا سأله ودعاه، قال الله - جل وعلا -: {وقال ربكم ادعونى أستجب لكم} غافر: 60 ، وقال سبحانه: {وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون} (سورة البقرة: 186) ، وقال - تعالى -: {أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء} (سورة النمل: 62.) ، وذكر هذا بمناسبة ما ذكر من دعاء الأحياء للأموات وانتفاعهم بذلك. ومما يندرج في إجابة الله – تعالى– الدعوات إثابة الداعين فما من داع يدعو إلا ويرجع بالثواب والأجر من رب العالمين، فالدعاء هو العبادة، فكل داع مأجور على دعائه، وسؤاله لله - تعالى - لامتثاله ما أمر به من دعاء الله – تعالى–: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} سورة غافر:60 ، ومن إجابة الله – تعالى– الدعوات أن يعطي السائل مسألته وينجز له طلبه، ويقضي حاجته فالله غني حميد، وهو على كل شيء قدير. ومن إجابة الله - تعالى - الدعوات أنه إذا لم يعط سائلا ما سأل لحكمة ورحمة فإنه إما أن يصرف عنه من الشر نظير ما سأل، وإما أن يدخرها له في الآخرة ثوابا وأجرا.
فالداعي له ثلاث أحوال بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد من حديث أبي سعيد - رضى الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها» قالوا: إذا نكثر، قال: «الله أكثر» (أخرجه أحمد (3/ 18)، قال الهيثمي (10/ 224):"رجال أحمد، وأبى يعلى، وأحد إسنادى البزار رجاله رجال الصحيح غير على بن على الرفاعى، وهو ثقة".) . ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بربه، أجيب أو لم يجب، أعطي مسألته أولم يعط، قضيت أو لم تقض وأن يفوض إلى الله الاختيار وهذا لا يمنع أن يلح العبد في دعائه وسؤاله وضراعته، وتكرار المسألة، فإن الله أكثر وأعظم، فالله – تعالى - يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات وفق ما تقتضيه رحمته وحكمته، فقد يكون من الحكمة والرحمة أن يمنع العبد ما سأل وطلب لا بخلا منه ولا عجزا فهو الغني الحميد، وهو على كل شيء قدير، فيد الله سحاء بالخير لا تنقصها نفقة، كما جاء في البخاري من حديث أبي هريرة - رضى الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم ينقص ما في يمينه» ("صحيح البخاري" (7419) .
ومثله ما رواه مسلم من حديث أبي ذر مرفوعا وفيه: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر» ("صحيح مسلم" (2577) . وإذا امتلأ قلب العبد ثقة بالله، وحسن ظن به علم أن الله – تعالى - لا يمنعه ما سأل إلا لرحمة وحكمة, يؤيد هذا ما روي عن عمر - رضى الله عنه – مرفوعا: «أتاني جبريل، فقال: يا محمد! ربك يقرأ عليك السلام، ويقول: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالفقر، ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم، ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لكفر» (أخرجه الخطيب في «التاريخ» (6/ 498)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" ح (26). وفيه يحيى بن عيسى الرملي، قال عنه البخاري:" منكر الحديث"، وقال النسائي:"ليس بالقوي".) .