قوله - رحمه الله -: «وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون» هذه المسألة من مباحث الإيمان المتعلقة بالأحكام، وأهل الكبائر هم أصحاب الذنوب الكبيرة، فالذنوب تنقسم في قول عامة العلماء إلى صغائر وكبائر، كما صرح بذلك القرآن الكريم في غير موضع؛ ومن ذلك قوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة} سورة النجم: 32 ، وقوله أيضا: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} سورة النساء: 31 ، وقوله أيضا: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} سورة النجم: 32 ، وقد جاء ذلك في السنة في أحاديث كثيرة، منها ما في «الصحيحين» من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وشهادة الزور» (صحيح البخاري (2653)، ومسلم (87) .
وقد اختلف أهل العلم في ضابط الكبيرة، فمنهم من ضبطها بالعدد، فقال: هي سبع، أو سبع عشرة، أو إلى السبعين أقرب، أو إلى السبعمائة أقرب، ومنهم من ضبطها بالحد، وهو الأقرب، وقد اختلفت عبارات الأئمة في تعريف الكبيرة، وغالب ذلك اختلاف تنوع، فعباراتهم متقاربة، ومن ذلك ما نقل عن ابن عباس أنه قال: (الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب) ، وقريب من هذا ما قاله الإمام أحمد في تعريف الكبيرة، حيث قال: (إنها ما يوجب حدا في الدنيا، ووعيدا في الآخرة) ، كالوعيد بدخول النار، أو تحريم الجنة وعدم دخولها، أو أنه لا يشم رائحة الجنة، ونحو ذلك. وأقرب ما يقال في حد الكبيرة: أنها كل ذنب فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو غضب الله أولعنته، أو نفي الإيمان، ونحو ذلك (ينظر: "مجموع الفتاوى" (11/ 650) .
وقوله: «وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون» أي: إن أهل السنة والجماعة، يعتقدون أن أصحاب الذنوب الكبيرة والآثام العظيمة، من أهل "لا إله إلا الله"، سواء كانت كبيرة واحدة أم كبائر عديدة، لا يبقون في النار بقاء أبديا، بل يخرجون من النار، فالله تعالى لا يخلد في النار أحدا من أهل الإيمان، كما دلت على ذلك الأدلة، وجرى عليه سلف الأمة، فإن نصوص الوعد تشمل أهل الكبائر في قول الصحابة والأئمة، كقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار} سورة النساء: 57 . و قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة» (أحمد (5/ 236)، وابن حبان (1/ 429)، ح (200) وصححه.) . والنصوص في ذلك أكثر من أن تحصر، كما سيأتي، وهذا خلاف ما عليه الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ومن نحا نحوهم.
وقوله: «في النار لا يخلدون» الخلود المنفي هنا هو خلود البقاء الذي لا خروج معه، فالخلود يأتي على نوعين، في كلام الله تعالى ورسوله:
الأول: خلود بمعنى طول البقاء والمكث في النار، وهاذا قد يكون لبعض أهل الكبائر من أهل الإسلام. كما ذكر الله تعالى في وعيد من قتل مؤمنا، فإن الله - سبحانه وتعالى - توعده بالخلود، فقال: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} سورة النساء: 93، والذي أوجب تفسير الخلود هنا بالمكث الطويل النصوص التي دلت على أن من قال: لا إله إلا الله مؤمنا بذلك، فمآله إلى الجنة، مهما ناله من العقاب قبل ذلك.
والثاني: خلود لا خروج معه، فهو بقاء أبدي سرمدي لا ينقطع، وهاذا لا يكون إلا لأهل الكفر والشرك، وقد ذكره الله تعالى في ثلاثة مواضع من كتابه: في سورة النساء في قوله تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا} (سورة النساء: 168 - 169.) . وكذلك ذكره الله في سورة الأعراف، في قوله تعالى: {إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا} (سورة الأحزاب: 64، 65) ، وكذلك في سورة الجن، في قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} (سورة الجن: 23) .
قوله- رحمه الله -: «إذا ماتوا وهم موحدون» أي: إن شرط عدم خلود أهل الكبائر في النار أن يموتوا على التوحيد، وأدلة هذا الشرط كثيرة، منها ما في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير» ("صحيح البخاري" (44)، ومسلم (193) ، وكذلك أحاديث الشفاعة، ومنها ما رواه الشيخان من حديث أنس أيضا، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في شفاعته يوم القيامة: «يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله» ("صحيح البخاري" (7510)، ومسلم (193).قوله - رحمه الله - «وإن لم يكونوا تائبين» أي: إن أهل الكبائر لا يخلدون في النار إذا دخلوها وإن لم يتوبوا منها، بل إما أن يعفو الله عنهم وإما أن يدخلهم النار فيعاقبون على ذنوبهم ويطهرون من آثامهم ثم يخرجون منها، كما سيأتي بيانه.
قوله - رحمه الله -: «بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين» هذا تأكيد لما تقدم من شرط التوحيد في قوله: «إذا ماتوا وهم موحدون» والمعنى أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار وإن لم يتوبوا منها؛ لأجل ما معهم من الإيمان والعلم بالله ما يمنع خلودهم في النار.
قوله - رحمه الله -: «وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم، وعفا عنهم بفضله كما قال تعالى في كتابه: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} سورة النساء: 48، 116 .، وإن شاء عذبهم في النار بقدر جناياتهم بعدله،» أي: إن أهل الكبائر من أهل الإيمان والتوحيد إذا لم يتوبوا من ذنوبهم فأمرهم إلى الله تعالى، إن شاء عاقبهم على ذنوبهم وآخذهم بها، وإن شاء عفا عنهم وغفر لهم، كما قال الله - جل وعلا-: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} سورة النساء: 48 ، فهم بين عدل الله وفضله - سبحانه وتعالى -، فعدل الله يقتضي مؤاخذتهم على ذنوبهم كما قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} سورة الشورى: 40 ، وكما قال: {من يعمل سوءا يجز به} سورة الزمر: 53 ، فالله تعالى لا يظلم الناس شيئا. وأما فضله فهو تجاوزه وعفوه، كما قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} سورة الزمر: 53 ومن فضله: إثابة الطائعين، وقبول أعمال المتقين، ومضاعفته أجور المحسنين، كما قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} سورة الأنعام: 160 ، وكما قال: {من جاء بالحسنة فله خير منها} سورة النمل: 89، وكما قال: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة} سورة البقرة: 245 .
قوله - رحمه الله -: «ثم يخرجهم منها» أي: إن الله تعالى ينجي بفضله من دخل النار من أهل الكبائر الموحدين بإخراجهم منها، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة التي فيها أن الله يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأنه لا يبقى في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود فيها، ومن تلك الأدلة ما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا» ("صحيح البخاري" (22)، ومسلم (184) . ومنها ما في الصحيحين من حديث أنس قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة، أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل».
وفيهما من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله» ("صحيح البخاري" (7510)، ومسلم (193) .
قوله - رحمه الله -: «برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته» أي: إن الله تعالى يخرج أهل الكبائر، ممن قال "لا إله إلا الله" بسببين؛ برحمته وبشفاعة الشافعين، فالخارجون من النار من أهل الكبائر الموحدين صنفان:
الأول: من يخرجهم الله من غير سبب، سوى محض رحمة الله التي وسعت كل شيء، كما جاء فيما رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، وفيه: فيقول الله تعالى: «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة» ("صحيح البخاري" (7439)، ومسلم (183) .
الثاني: من يخرجهم الله بشفاعة الشافعين من أهل طاعته، من الملائكة والنبيين والشهداء والصالحين، وغيرهم من المؤمنين الذين يأذن الله لهم بالشفاعة. والشفاعة: هي التوسط في إيصال الخير ودفع الضر عن الغير، وقد تقدم الكلام عليها فيما مضى. وشفاعة الشافعين في خروج أهل الكبائر الموحدين إحدى أنواع الشفاعة التي يثبتها أهل السنة والجماعة، وينفيها الوعيدية من الخوارج والمعتزلة، ولا بد للشفاعة من شرطين: الأول: إذن الله تعالى في الشفاعة كما قال تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} سورة البقرة: 255 . وقوله: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن ياذن الله لمن يشاء ويرضى} سورة النجم: 26 . والثاني: رضا الله تعالى عن المشفوع له، قال تعالى: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} سورة الأنبياء: 28.
وقوله: «برحمته وشفاعة الشافعين ... » قدم المؤلف ذكر الرحمة على شفاعة الشافعين، في بيان أسباب خروج أهل الكبائر الموحدين من النار، وسر ذلك أن شفاعة الشافعين، إنما هي بإذنه ورضاه بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع، وذلك من رحمته - سبحانه وتعالى - بعباده، فرحمته سابقة لاحقة. فلا يصل إلى الإنسان خير إلا برحمة الله - عز وجل -، والشفاعة إيصال خير إلى المشفوع له، وهو خير للشافع؛ لأنه إكرام له وإظهار لمنزلته، فهي رحمة من الله - جل وعلا- لعباده الشافع والمشفوع له.
وقوله: «من أهل طاعته» بيان لوصف من يشفع، فالشفاعة فضل وكرامة، وهي لا تكون إلا لأهل السبق والطاعة من الملائكة والناس ممن يقدر الله - جل وعلا- أنه يشفع كما تقدم.
قوله - رحمه الله -: «ثم يبعثهم إلى جنته» أي: إن الله تعالى إذا أخرج أهل الكبائر الموحدين من النار فإنه يدخلهم الجنة برحمته، كما جاء في حديث أبي سعيد في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم يقول الله - عز وجل -: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحيا، فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل» ("صحيح البخاري" (22)، ومسلم (184) ، وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك في الشفاعة العظمى قول النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة» ("صحيح البخاري" (22) .
قوله - رحمه الله -: «وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته» أي: إن سبب إخراج أهل الكبائر الموحدين من النار وعدم خلودهم فيها: ولاية الله تعالى لأهل التوحيد. فالتولي مأخوذ من الولاية، وهي القرب من الشيء، ويدور معناها على المحبة والنصرة، فلما كان التوحيد محبوبا لله تعالى، موجبا لمحبة أهله ونصرتهم، كان أهله أولياء لله تعالى، ولو كانوا على قصور وتقصير، صغير أو كبير، وأولياء الله موعودون بالأمن، كما قال الله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} سورة يونس: 62 - 63 ، فلهم من الوعد بعدم الخوف والحزن بقدر ما معهم من الولاية، ومن هذا قوله تعالى: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} سورة الأنعام:82 .
وقوله: «أهل معرفته» أي: أهل العلم به من الموحدين المؤمنين، فهؤلاء لا تخرجهم الكبائر عن الإيمان، ولا تسلبهم وصفه، كما قال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات} سورة فاطر: 32 ، فجعل الله تعالى من عباده المصطفين من ظلم نفسه بالمعاصي صغيرها وكبيرها، بل ووصف المؤمنين بأنهم أهل معرفته؛ لأن مقتضى معرفته هو الإيمان به والقيام بحقه، وليس المراد ما قاله غلاة المرجئة من أن المعرفة هي مجرد علم القلب ولو لم يثمر قولا ولا عملا، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» (أخرجه أحمد (1/ 307)، وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص (256): «حديث حسن له شواهد».) .
قوله - رحمه الله -: «ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته» أي: إن الله تعالى لم يجعل أهل معرفته العالمين به كأهل تكذيبه الجاحدين له الجاهلين به، بل فرق بينهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون} سورة القلم: 35 - 36 ، وقال تعالى: {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} سورة الجاثية: 21 . فنفى الله - جل وعلا- التسوية بين هذين الفريقين في الدنيا والآخرة، فهم مفترقون في أحكام الدنيا، ومفترقون أعظم الافتراق في أحكام الآخرة.
قوله - رحمه الله -: «الذين خابوا من هدايته» أي: إن من صفات أهل نكرته المكذبين به، أنهم من هداية التوفيق والعمل محرومون، كما قال تعالى: {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم} سورة النحل: 104 ، وكما قال تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا} سورة النساء: 168 - 169 . وأما هداية الدلالة والإرشاد والبيان، فبها تقوم الحجة على الخلق، فهي مبذولة لكل الخلق، كما قال تعالى: {وهديناه النجدين} سورة البلد:10، وكما قال تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} سورة الإنسان:3 ، فجعل الله تعالى هؤلاء المحرومين من هدايته خالدين في النار.
قوله - رحمه الله -: «ولم ينالوا من ولايته» أي: إن أهل تكذيبه ونكرته، لا يحصلون شيئا من ولاية الله تعالى، والولاية المنفية هنا هي ولاية النصر والتقريب الخاصة بأهل الإيمان؛ فإن الولاية في القرآن نوعان: الأولى: ولاية عامة وهي الشاملة لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم كما قال تعالى: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق} سورة الأنعام: 62 .و هذه الولاية تقتضي معاني الربوبية من الخلق والرزق، وغير ذلك مما يوصله الله تعالى لأهل الكفر.
الثانية: ولاية خاصة، وهي التي لا تكون إلا لأهل الإيمان والتقوى والصلاح، كما قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} (سورة يونس: 62 - 63.) ، وكما قال: {إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} (سورة الأعراف: 196.) ، وكما قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} (سورة يوسف: 101.) . وهذه الولاية تقتضي المحبة والنصرة والتأييد والتوفيق والفوز في الدارين، وهي التي نفاها الله تعالى عن أهل الكفر، كما في قوله: {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} (سورة آل عمران: 102.) .
قوله - رحمه الله -: «اللهم يا ولي الإسلام وأهله» ختم المؤلف - رحمه الله - ما تقدم بسؤال الله تعالى الثبات على سبب النجاة من الهلاك في الدارين وهو الإسلام.
وقوله: «يا ولي الإسلام وأهله» أي: يا ناصر الإسلام وأهل الإسلام، ومحبهم ومقربهم، فدعا الله - تعالى - متوسلا إليه بصفة الولاية التي تقتضي تحقيق المطلوب وإدراك المأمول.
قوله - رحمه الله -: «ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به» أي: ارزقنا الدوام على دين الإسلام إلى الوفاة، وهذا من أعظم المسائل وأهمها، وقد ذكر الله عن المؤمنين سؤالهم الثبات، فقال: {ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} (أخرجه أحمد (3/ 112)، والترمذي (2140)، وحسنه.) ، وقال تعالى: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} (سورة آل عمران: 147.) . وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (سورة البقرة: 250.) . و «حتى» في قوله: «حتى نلقاك» غائية، أي: اجعلنا ثابتين على الإسلام إلى لقائك بالموت عليه كما أمر الله تعالى في قوله: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (سورة محمد: 11.) ، ودعاء المؤلف -رحمه الله - هنا نظير قول يوسف - عليه السلام -: {أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} (سورة يوسف: 101) ، وسيلة ومطلوبا.