قوله - رحمه الله-: «وإن القرآن كلام الله» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن القرآن العظيم تكلم الله به على الحقيقة، فسمعه منه جبريل ونزل به على قلب خاتم المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأداه كما سمعه من رب العالمين، وهذه الجملة معطوفة على ما تقدم في قوله: " إن الله وحده لا شريك له". والقرآن مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا بمعنى تلا يتلو تلاوة، ويأتي بمعنى الجمع والتأليف، ومنه قوله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه} (سورة القيامة:17) ، وما ذكره المؤلف من أن القرآن كلام الله حق دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة، فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يعتقدون أن القرآن كلام الله، بل قال بعض أهل العلم: إن من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله. والإيمان بأن القرآن كلام الله، داخل في الإيمان بالكتب والرسل، ولهذا كان المشركون الذين كفروا بالله يكذبون الرسل في أن ما جاءوا به من الله أو أنه قول رب العالمين، قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} سورة الأنعام:91. وقال أيضا: {إن هذا إلا قول البشر} (سورة المدثر:25.) ، فكان من طرقهم في تكذيب الرسل تكذيب أن يكون الله أوحى إليهم أو أنزل عليهم كتبا. واعتقاد أن القرآن كلام الله يتضمن إثبات صفة الكلام لله تعالى، وصفة الكلام دل عليها الكتاب والسنة والإجماع والعقل.
فأما من الكتاب فقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} (سورة النساء: 164) ، وقوله - سبحانه وتعالى -: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي} (سورة الأعراف: 144) ، وقوله - عز وجل -: {منهم من كلم الله} (سورة البقرة: 253) ، وقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب} (سورة الشورى: 51) . فالله تعالى لم يزل ولا يزال متصفا بالكلام، وقد جعل الله إثبات وصف الكلام دليلا على إلهيته، ولذلك احتج إبراهيم - عليه السلام - على من عبد غير الله، بأنهم لا يتكلمون، فقال لهم: {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} (سورة الأنبياء: 63.) ، وكذلك قال تعالى في إبطال عبادة بني إسرائيل العجل: {أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} (سورة طه: 89.) . وأما من السنة فقد أخرج البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «يقول الله - عز وجل - يوم القيامة: يا آدم، يقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادى بصوت إن الله يامرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ... » ("صحيح البخاري" (4741) . وأخرج البخاري معلقا جازما به، وأبو داود عن ابن مسعود: «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات شيئا، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق، ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق» ("صحيح البخاري " قبل حديث (7481)، و"سنن أبي داود" (4738) .
وأما الإجماع فقد أجمع سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم من أئمة السنة على أن الله موصوف بالكلام، وأن كلامه بصوت على ما يليق به، وهذا ما دل عليه العقل، ولذلك أثبتها مثبتة الصفات، من الأشاعرة والكلابية والماتريدية وأشباههم. وكلام الله تعالى ينقسم إلى قسمين: الأول: كلام شرعي ديني أمري وهو كلام الله - عز وجل - الذي كلم به رسله وأنزل به كتبه؛ كالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب، قال تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل} (سورة آل عمران: 3) ، وقال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} (سورة التوبة: 6) ، أي يسمع القرآن. وأشرف كلام رب العالمين وأجله القرآن العظيم، قال الله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث} (سورة الزمر: 23.) ، ثم يليه التوراة، ولذلك أكثر الله تعالى من ذكرها في القرآن العظيم. الثاني: كلام خلقي قدري كوني وهو الذي يصدر عنه كل شيء في هاذا الكون، ولا حد له ولا حصر، قال الله تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} (سورة لقمان: 27) . وقال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين} (سورة الصافات: 171) .
وقال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (سورة النحل: 40) ، وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في تعوذه: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر» (أخرجه أحمد (3/ 419)، وأبو يعلى (12/ 237) ح (6844)، قال المنذري (2/ 303): «رواه أحمد وأبو يعلى، ولكل منهما إسناد جيد محتج به»، وقال الهيثمي (10/ 127):"، ورجال أحد إسنادي أحمد وأبي يعلى وبعض أسانيد الطبراني رجال الصحيح".) . فإن كلمات الله التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر هي الكلمات الكونية؛ لأنه لا خروج لأحد عن قدر الله، فكل ما وقع في الكون من خير أو شر فهو بكلمات الله الكونية، لا يتجاوز هاذا ولا يخرج عنه بر ولا فاجر.
قوله - رحمه الله -: «منه بدأ» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن القرآن بدأ من الله تعالى. فـ (من) هنا لبيان ابتداء الغاية؛ والمعنى أن الله هو المتكلم بالقرآن، لم يبتدئه من غيره لا كلاما ولا خلقا، فالله - سبحانه وتعالى - لم يخلق هاذا الكلام في غيره كما تقوله المعتزلة والجهمية، حيث قالوا: القرآن كلام الله، لكنه مخلوق (ينظر:: مجموع الفتاوى (12/ 312) ، وقد رد عليهم الأئمة، فقالوا: القرآن بدأ من الله لم يبتدئ من غيره من الموجودات، كما قال تعالى: {وإنك لتلقى
القرآن من لدن حكيم عليم} (سورة النمل: 6) ، وقال تعالى: {ولكن حق القول مني} (سورة السجدة: 13) ، وما أشبه ذلك. وقد جرى في هذه المسألة فتنة عظيمة لأهل السنة والجماعة زمن الإمام أحمد، حيث امتحن الناس بمسألة خلق القرآن، فامتحن بذلك العلماء والقضاة (لمعرفة تفاصيل هذه المحنة ينظر «سير أعلام النبلاء» (21/ 277 - 311) ، وثبت الله أحمد بن حنبل، فحفظ الله به الحق من الاندثار والضياع، وذب عما دل عليه الكتاب والسنة، ورد قول المبتدعة الجهمية الذين قالوا: إن القرآن مخلوق كسائر المخلوقات وشبهتهم في ذلك ما فهموه من قوله تعالى: {الله خالق كل شيء} (سورة الرعد: 16.) ، فقالوا: إن القرآن شيء فهو داخل في هاذا العموم فيكون مخلوقا، وهذا خطأ بين، فإن عموم «كل» يختلف باختلاف مواردها، فإفادتها للعموم في كل موضع بحسبه، وبما يظهر من السياق الذي وردت فيه، فمثلا قال الله تعالى في الريح التي أهلك بها عادا قوم هود: {تدمر كل شيء} (سورة الأحقاف: 25.) ، وهي لم تدمر الأرض التي مرت عليها، فلم تفد العموم المطلق بالإجماع.
كما أنه يلزم على ما ذهبوا إليه أن جميع ما وصف الله به نفسه مخلوق، لدخوله في هذا العموم، وهذا لا يقول به أحد، فلزم القول بأن القرآن كلام الله، ليس بمخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومما يبطل ما ذهبوا إليه أن الله تعالى أضاف الكلام إليه، فقال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مامنه} (سورة التوبة: 6) ، فأضاف الكلام إلى نفسه، وهو من إضافة الأوصاف وليس من إضافة الأعيان؛ لأن الكلام صفة لا تقوم بنفسها، بل تقوم بغيرها، خلافا للجهمية الذين قالوا: إن الكلام مخلوق فإضافة الكلام إلى الله إضافة عين، كإضافة بيت الله، وناقة الله، وما أشبه ذلك من الأعيان التي أضافها الله - سبحانه وتعالى - إلى نفسه، وهذا باطل فإن ثمة فرقا بين إضافة الصفات وإضافة الأعيان، فإضافة الأعيان هي إضافة أشياء قائمة بذاتها، كناقة الله وبيت الله وعبد الله، والإضافة في مثل هذا إما إضافة خلق وملك؛ وإما إضافة تشريف وتكريم واختصاص. أما إضافة الأوصاف فهي إضافة ما لا يقوم بنفسه من الأشياء، كالكلام والرحمة والسمع والبصر (ينظر: مجموع الفتاوى (17/ 151 - 152)، رسالة العقل والروح (2/ 38، 39) .
قوله - رحمه الله -: «بلا كيفية» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تعالى تكلم بالقرآن، لكن الخلق لا قدرة لهم على معرفة حقيقة ذلك ولاكنهه وصورته. ولذلك لا نتكلم في كيفية ذلك لعدم علمنا به، فالمنفي هو علمنا بهذه الكيفية، وليس ذات الكيفية، فما من شيء إلا وله كيفية. فالصفات لا بد أن يكون لها حقيقة وكنه، والمنفي هو علمنا بذلك، كما قال الله: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى:11 فالآية تضمنت نفي التمثيل ونفي ما يوصل إليه، وهو التكييف، فإنه إذا كان المثل منتفيا، فما يوصل إليه، وهو العلم بالكيفية منتف أيضا، ولذلك «إذا قال السائل: كيف ينزل؟ أو: كيف استوى؟ أو: كيف يتكلم؟ أو: كيف يقدر؟ أو: كيف يخلق؟ فيقال له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: لا أعلم كيفية ذاته. فيقال له: وأنا لا أعلم كيفية صفاته. فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف» (مجموع الفتاوى (5/ 330) ، فلذلك لما سئل بعض السلف عن الاستواء: كيف استوى؟ قال: دلني كيف هو فأخبرك كيف استوى؟ قال ابن وهب كنا عند مالك، فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله! الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء، وقال: «الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه» (رواه البيهقي بإسناد صحيح، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضا، ولفظه قال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه».) . فانتفاء العلم بكيفية ذاته - سبحانه وتعالى - دليل على انتفاء العلم بكيفية صفاته؛ فالقول في الصفات كالقول في الذات، وهو فرع عنه، وهذا عام في كل ما أخبر الله به عن نفسه، ولذلك لما سئل الإمام مالك عن كيفية الاستواء، أجاب بجواب فصل بين واضح عليه نور القرآن وهدي السنة، فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، أو غير معلوم» (رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/ 441)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 408) ، فنفى العلم بالكيفية؛ لأن العلم بكيفية الصفات فرع عن العلم بكيفية الذات.
قوله - رحمه الله -: «قولا» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن القرآن قاله الله وتكلم به، وقد أضاف الله تعالى القول إلى نفسه في عدة مواضع؛ منها قوله تعالى: {ومن أصدق من الله قيلا} سورة النساء:122 ، وقوله تعالى: {وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة} سورة المائدة:12 وقوله أيضا: {وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين} سوة النحل:51 وقوله أيضا: {ولكن حق القول مني} (سورة السجدة: 13) ، وقوله أيضا: {قوله الحق وله الملك} (سورة الأنعام: 73) . فالقرآن قول الله وكلامه؛ حروفه ومعانيه، فقد سمى الله مجموع اللفظ والمعنى قرآنا في مواضع عديدة، فقال تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين} (سورة يوسف: 1.) ، وقال تعالى: {تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} (سورة الحجر: 1.) ، وقال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} (سورة التوبة: 6.) . فهذا ونحوه يدل على أن القرآن قول الله وكلامه حروفه ومعانيه، وفي هذا الرد على الأشاعرة الذين قالوا: «إن القرآن عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله» (ينظر: مجموع فتاوى لابن تيمية (12/ 375) ؛ فالكلام عندهم معنى يقوم بالنفس، وفيه رد على الكلابية الذين قالوا: إن القرآن حكاية عن كلام الله - عز وجل -، وليس كلام الله (ينظر: مجموع فتاوى لابن تيمية (12/ 375) ، وقد اختلف هؤلاء في معنى كلام الله - عز وجل - المحكي عنه، فمنهم من قال: إنه معنى واحد، ومنهم من قال: إنه خمسة معان (ينظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (3/ 312)، ومجموع الفتاوى (17/ 165) . وكل هذه الأقوال خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة من أن القرآن قول الله تعالى ليس بعبارة ولا حكاية.
قوله - رحمه الله -: «وأنزله على نبيه» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وهاذا تأكيد لما تقدم من أن القرآن كلام الله، فإن من أدلة كون القرآن كلام الله إخباره بأنه أنزله على رسوله محمد، كما قال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب} (سورة آل عمران: 7.) ، وقال تعالى: {الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} (سورة الشورى: 17.) ، وقال تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه} (سورة آل عمران: 3.) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد بين الله مبدأ إنزال القرآن، وأنه منه، فقال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} (سورة الزمر: 1.) ، وقال تعالى: {تنزيل من حكيم حميد} (سورة فصلت: 42.) ، وقال تعالى: {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم} (سورة النمل: 6.) . وهذا يبطل زعم من قال: إن إنزال القرآن كإنزال الحديد والأنعام كما في قوله: {وأنزلنا الحديد فيه باس شديد} (سورة الحديد: 25.) ، وفي قوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} (سورة الزمر: 6.) ، فإن هذا الإنزال لم يقيد بكونه من الله، كما في إنزال القرآن.
قوله - رحمه الله - «وحيا» أي: إن الله تعالى أنزل القرآن على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - حال كونه وحيا. والوحي هو الإعلام السريع، وهو أنواع؛ فمنه ما يكون ظاهرا، ومنه ما يكون خفيا، ومنه ما يكون يقظة، ومنه ما يكون مناما كالرؤيا (ينظر: «الصحاح» (7/ 370)، و «لسان العرب» (15/ 379) . ومنه ما يكون نبوة ورسالة، ومنه ما لا يكون نبوة ولا رسالة؛ لكن يكون دلالة وهداية وتوفيقا. واسم الوحي في كتاب الله تعالى نوعان: عام وخاص؛ فالوحي العام هو الإعلام السريع الخفي، فيكون بتكليم وبدونه، وهذا النوع لا يكون إلا للأنبياء، ومنه قوله تعالى: {فاستمع لما يوحى} (سورة طه:13.) ، وكقوله تعالى: {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (سورة النجم:10.) ، وكقوله: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده} (سورة النساء:163.) . وأما الوحي الخاص، فإنه إعلام سريع خفي لا يستلزم تكليما، ويكون لغير والأنبياء (ينظر:: مجموع الفتاوى (12/ 398)، مدارج السالكين (1/ 44) ، ومنه قوله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى} (سورة القصص:7.) ، وقوله تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} (سورة المائدة:111.) ، وكقوله تعالى لزكريا: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} (سورة مريم:10.) ، ثم قال: {فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم} سورة مريم: 11 ، فالإيحاء «ليس بتكليم ولا يناقض الكلام» ("مجموع الفتاوى" (12/ 401 - 402) .
والوحي الخاص يندرج في التكليم العام كما سيأتي، وهو الذي ذكره الله تعالى في قوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} سورة الشورى: 51 فدلت الآية على أن التكليم العام ثلاثة أقسام: الأول: الوحي المجرد، وهو الإعلام السريع الخفي، وهو ما أنزله الله تعالى على قلب من شاء من عباده بلا واسطة، وهو أدنى مراتب التكليم وآخرها ("مجموع الفتاوى" (12/ 397) ، وهو الوحي الخاص. ويكون للأنبياء وغيرهم، ومنه قوله - سبحانه وتعالى -: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي} سورة المائدة: 111 ، وقوله - عز وجل -: {وأوحينا إلى أم موسى} (سورة القصص: 7.) . ويكون الوحي يقظة ومناما. فمن اليقظة ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» ("صحيح البخاري" (3689)، ومسلم (2398)، من حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما.) ، وفي رواية في الصحيح بلفظ «يكلمون» ("صحيح البخاري" (3689) . ومن الوحي في المنام رؤيا الأنبياء، فإنها وحي، ففي الصحيحين من حديث عبادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» ("صحيح البخاري" (6987)، ومسلم (2264) . «والوحي يكون بصوت هاتف، ويكون الصوت في نفس الإنسان ليس خارجا عن نفسه» ("مجموع الفتاوى" (12/ 397) ، وقد لا يكون بصوت بل يكون إلهاما وهداية.
وقد استدل بعض الناس بذلك على أن الكلام يطلق على ما ليس فيه حرف ولا صوت، وهذا غير مسلم. فإن الوحي الخاص لا يسمى كلاما عند الإطلاق، بل هو مقيد بالقرينة، والقرينة هنا أن الله تعالى فرق بين الإيحاء وبين التكليم من وراء حجاب، «فلما فرق القرآن بين هذا وهذا، وعلم بإجماع الأمة ما استفاضت به السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من تخصيص موسى بتكليم الله إياه دل ذلك على أن الذي حصل له ليس من جنس الإلهامات وما يدرك بالقلوب إنما هو كلام مسموع بالآذان ولا يسمع بها إلا ما هو صوت» ("مجموع الفتاوى" (6/ 532) ، «فمن سوى بين هذا وهذا كان ضالا» ("مجموع الفتاوى" (12/ 588) ، ويوضح هذا أن اسم الوحي والكلام في كتاب الله فيهما عموم وخصوص، فإذا كان أحدهما عاما اندرج فيه الآخر، وهذا وجه ذكر الوحي الخاص ضمن أقسام التكليم العام ("مجموع الفتاوى" (12/ 401) ، وعلة الإدراج أنه يحصل بالوحي الخاص ما يحصل بالكلام من الإعلام. الثاني: التكليم من وراء حجاب، وهذا ما ابتدأ الله به الوحي لموسى - عليه السلام -، وهو المشار إليه بقوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليما} سورة النساء: 164. ومنه قوله تعالى: {وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني} سورة الأعراف:143. الثالث: التكليم بواسطة إرسال رسول من الملائكة، وهو جبريل - عليه السلام -، وهذا هو الغالب في الوحي للأنبياء والرسل، ولا يكون إلا لهم.
كما قال تعالى: {وإنه لتنزيل رب العالمين* نزل به الروح الأمين* على قلبك لتكون من المنذرين} سورة الشعراء:192 - 195 ، وقال تعالى: {قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين} سورة البقرة:97. فقوله: «وحيا» أي: إن إنزال القرآن كان بالوحي من الله تعالى؛ حيث تكلم به -جل وعلا- وسمعه جبريل، ثم بلغه جبريل نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق} (سورة النحل: 102.) ، وكما قال تعالى: {علمه شديد القوى} (سورة النجم: 5.) ، وهذا هو المشار إليه في قوله تعالى: {أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} سورة الشورى: 51.
قوله - رحمه الله -: «وصدقه المؤمنون على ذلك حقا» أي: إن أهل الإيمان أقروا بأن القرآن العظيم كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على نبيه وحيا، فالمؤمنون مجمعون على أن القرآن كلام، منزل غير مخلوق، كما دلت على ذلك الأدلة.
وقوله: «حقا» صفة مصدر محذوف، تقديره تصديقا حقا، أي: تصديقا ثابتا لا شك فيه ولا ريب.
قوله - رحمه الله -: «وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة» أي: إن أهل الإيمان، علموا علما جازما أن القرآن العظيم كلام رب العالمين حقيقة، فهو سبحانه المتكلم به حقيقة، فإضافة القرآن إلى الله حقيقة لامجاز، وهي من باب إضافة صفات، لا كما يقول الجهمية والمعتزلة، بأن القرآن كلام الله لكنه مخلوق، وأن إضافته إلى الله إضافة خلق لا وصف، ولا كما يقول الأشاعرة أيضا بأن القرآن عبارة عن كلام الله، ولا كما يقول الماتريدية بأن القرآن حكاية عن كلام الله. فالقرآن كلام الله تعالى حقيقة حروفه ومعانيه وعلى هذا أجمع سلف الأمة.
قوله - رحمه الله -: «ليس بمخلوق ككلام البرية» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن القرآن كلام الله - جل وعلا- ليس مخلوقا، بل هو صفة من صفاته، فإضافة الكلام إلى الله تعالى إضافة صفات لا إضافة خلق كما تقدم تقريره، وفي هذا رد على الجهمية والمعتزلة.
وقوله: «ككلام البرية» أي: إن كون القرآن كلام الله على الحقيقة لا يستلزم أن يكون مخلوقا ككلام الخلق، فإن كلام البرية مخلوق، قال الله تعالى: {الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون} وقال تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}، وقال تعالى: {ألم نجعل له عينين (8) ولسانا وشفتين}.
قوله - رحمه الله -: «فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر» أي: إن من سمع القرآن وادعى أنه قول البشر، وليس قول الله تعالى فإنه كافر بالله العظيم، خارج عن الإسلام؛ وذلك لتكذيب ما جاء في القرآن, مما سيذكر المصنف بعضه، وما دلت عليه السنة، وأجمعت عليه الأمة من أن القرآن كلام الله تعالى لفظه ومعناه. وقد جاء الحكم بالكفر على من قال إن القرآن مخلوق في كلام السلف، قال أبو يوسف:" ناظرت أبا حنيفة - رحمه الله - مدة حتى اتفق رأيي ورأيه أن من قال بخلق القرآن فهو كافر" ("مجموع الفتاوى" (23/ 349) .
وقوله: «فقد كفر» هذا حكم بكفر من قال: بأن القرآن كلام البشر، وقد تقدم مثل هذا عن جماعات من سلف الأمة وأئمتها، لكن هذا الحكم لا يلزم منه تكفير أعيان القائلين بذلك، حتى تقوم عليهم الحجة التي يكفر منكرها، ولهذا كان الإمام أحمد يكفر الجهمية المنكرين لأسماء الله وصفاته، لكنه لم يكفر أعيانهم ("مجموع الفتاوى" (12/ 487 - 488) ، بل نقل عنه أنه ترحم عليهم واستغفر لهم؛ لعلمه بأنهم لم يتبين لهم أنهم بهذا القول مكذبون للرسول، ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال لهم ذلك" ("مجموع الفتاوى" (12/ 487 - 488) . وفرق بين تكفير المقول وبين تكفير القائل إذ القائل لابد في تكفيره من توافر الشروط وانتفاء الموانع، فالتكفير المطلق لا يلزم منه تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، ولهذا كان الإمام أحمد وعامة الأئمة: الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه" ("مجموع الفتاوى" (12/ 487 - 488) . ولذلك قال الشافعي لحفص الفرد لما قال: "القرآن مخلوق: كفرت بالله العظيم"، ومراده بيان أن هذا القول كفر، قال ابن تيمية:"ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، وقد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم" ("مجموع الفتاوى" (23/ 349) .
وقد قال ابن تيمية - رحمه الله - لجهمية الحلولية لما ناظرهم في مصر:" أنا لو وافقتكم كنت كافرا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، و أنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطابا لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم" ("الرد على البكري" (2/ 494) .
قوله - رحمه الله -: «وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر» أي: إن الله تعالى وصف بالقبيح من زعم أن القرآن كلام البشر، وتوعده على تلك المقالة بالعذاب وسقر، فسقر اسم من أسماء النار، وقيل: إنه اسم من أسماء أبوابها (ينظر:: «النكت والعيون» (6/ 143) ، ودليل هذا فيما يأتي.
قوله - رحمه الله -: «حيث قال تعالى: {سأصليه سقر} (سورة المدثر: 26.) ، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إن هذا إلا قول البشر} (سورة المدثر: 25.) » أي: إن دليل كفر من قال: إن القرآن كلام البشر أن الله تعالى توعده بسقر، كما قال: {سأصليه سقر}، وفي هذا غاية الذم والعيب لهذا القول إذ إنه موجب للعقوبة بالنار. وكل هذا يثمر العلم الجازم واليقين الراسخ أن القرآن العظيم قول رب العالمين.
وصاحب هذه المقالة - {إن هذا إلا قول البشر} - هو الوليد بن المغيرة، فقد روى الحاكم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -:"أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه" فذكر ما جرى بينهما، إلى أن قال الوليد: "فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره من غيره، فنزلت: {ذرني ومن خلقت وحيدا} (ضعيف: أخرجه الحاكم (2/ 506)، وقال الحاكم: «صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه»، ومن طريقه البيهقي في الدلائل (2/ 198)، من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلا.) ، فكان ذم الله لصاحب هذه المقالة الكفرية دليلا على أن القرآن كلام الله تعالى.
قوله - رحمه الله -: «ولا يشبه قول البشر» أي: إن القرآن كلام الله على الوجه اللائق به من غير تمثيل ولا تكييف، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وذلك كسائر صفات الله تعالى، كما قال - جل وعلا-: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} (سورة الشورى: 11)