بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ.
الحَمدُ لِلَّهِ وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ.
أمَّا بَعْدُ:
فَلِأَهْلِ العِلمِ في وُجوبِ الزَّكاةِ في الدَّيْنِ المُؤجَّلِ الَّذِي يُوفِّيهِ الْمَدِينُ مُقسَّطًا أقوالٌ:
الأوَّلُ: تجِبُ زَكاتُهُ مَعَ مالِهِ الحاضِرِ الَّذِي في يَدِهِ إذا كانَ الْمَدِينُ مَليئًا، وهَذَا هُوَ مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ ورِوايَةٌ عَنْ أحمدَ، وهُوَ قَوْلُ إسحاقَ وأبِي عُبَيدٍ.
ويُروَى هَذَا القَوْلُ عَنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ وعُثمانَ وابنِ عُمَرَ وجابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم(1).
الثَّاني: تجِبُ زَكاتُهُ كالمالِ الحاضِرِ الَّذِي في يَدِهِ إذا كانَ الْمَدِينُ مَليئًا، ولَهُ تَأخيرُ إخراجِها إلى حِينِ قَبضِها، وهَذَا مَذهَبُ الحَنفيَّةِ(2)، ومَذهَبُ أحمَدَ، وهُوَ قَوْلُ سُفيانَ.
الثَّالِثُ: تَجِبُ زَكاتُهُ مَرَّةً واحدَةً فَقَطْ إذا قَبَضَهُ، سَواءً كانَ الْمَدِينُ مَليئًا أو مُعْسِرًا، وهَذَا مَذهَبُ مالِكٍ(3)، ورِوايةٌ عَنْ أحمَدَ.
وقَدْ قالَ بهَذَا الحَسَنُ وعُمَرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ(4).
الرابِعُ: ليْسَ في الدَّيْنِ المُؤجَّلِ زَكاةٌ بالكُلِّيةِ، وهَذَا رِوايةٌ عَنْ أحمَدَ اختَارَها شَيْخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمَيَّةَ، وهُوَ قَوْلُ الشَّافِعيِّ في القَديمِ(5) وبِهِ قالَ بَعْضُ الشَّافعيَّةِ(6) وابنُ حَزْمٍ مِنَ الظَّاهِريَّةِ.
وقالَ البَيْهَقيُّ في سُننِهِ +++ (4/150) --- : وقَدْ حَكاهُ ابنُ المُنذِرِ عَنِ ابنِ عُمَرَ وعائِشةَ ثُمَّ عِكرِمَةَ وعَطاءٍ.
والمُلاحَظُ في هذِهِ المَسألَةُ أنَّ الأقوالَ فِيْها مُبنيَّةٌ عَلَى الاختِلافِ في الدَّيْنِ هَلْ هُوَ مالٌ نامٍ أو لا(7)؟ وهَلْ هُوَ كالمالِ الحاضِرِ أو لا(8)؟
والَّذِينَ قَالُوا بوُجوبِ الزَّكاةِ احتَجُّوا بعُمومِ الأدِلَّةِ في وُجوبِ الزَّكاةِ في الأموالِ، والدَّيْنُ مالٌ مِنَ الأمْوالِ فتَجِبُ فِيْهِ الزَّكاةُ.
واحتَجُّوا أيضًا بالآثارِ الوارِدَةِ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ في وُجوبِ الزَّكاةِ في الدَّيْنِ.
وليْسَ في هَذَيْنِ حُجَّةٌ بيِّنَةٌ فإنَّ عُمومَ أدِلَّةِ وُجوبِ الزَّكاةِ في الأمْوالِ مَخصوصٌ بما جاءَ النَّصُّ عَلَى وُجوبِ الزَّكاةِ فِيهِ، وليْسَ في وُجوبِ زَكاةِ الدُّيونِ نَصٌّ يُشارُ إلَيْهِ، قالَ الشَّافِعيُّ في القَديمِ: لا أعرِفُ في الَّزكاةِ في الدَّيْنِ أثرًا صَحيحًا نأخُذُ بِهِ ولا نَتركُهُ، فأَرَى -واللهُ أعلَمُ- أنَّهُ ليْسَ فِيهِ زَكاةٌ (9).
وأمَّا ما نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ فمُقابَلٌ بأقوالِ نُظَرائِهِم مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، فلا حُجَّةَ في قولِ بَعْضِهِم مَعَ اختِلافِهِم.
أمَّا مَنْ قالُوا بوُجوبِهِ لعامٍ واحِدٍ فهُوَ قَوْلٌ غَريبٌ قالَ عَنْهُ أبُو عُبَيدٍ في كِتابِ الأمْوالِ +++ ص (440) --- : فأمَّا زَكاةُ عامٍ واحَدٍ فلا نَعرِفُ لَه وَجْهًا.
وقالَ عَنْهُ ابنُ عَبدِ البَرِّ في الاستِذكارِ +++ (3/163) --- : وليْسَ لهَذَا المَذهَبِ في النَظَرِ كَبيرُ حَظٍّ إلَّا ما يُعارِضُهُ مِنَ النَّظَرِ ما هُوَ أقوَى مِنْهُ، والَّذِي عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الدَّيْنِ أنَّهُ إذا كانَ قادِرًا عَلَى أَخْذِهِ فهُوَ كالوَديعَةِ يُزكِّيهِ لكُلِّ عامٍ؛ لأنَّ تَرْكَهُ لَهُ وهُوَ قادِرٌ عَلَى أَخْذِهِ كتَركِهِ لَهُ في بَيْتِهِ، وما لم يَكُنْ قادِرًا عَلَى أخْذِهِ فقَدْ مَضَى في هَذَا البابِ ما للعُلَماءِ في ذَلِكَ، والاحتياطُ في هَذَا أوْلَى واللهُ المُوفِّقُ للصَّوابِ وهُوَ حَسْبِي ونِعْمَ الوَكيلُ.
وقالَ ابنُ رُشدٍ في بِدايةِ المُجتَهِدِ +++ (1/199) --- : وأمَّا مَنْ قالَ: الزَّكاةُ فِيْهِ لحَوْلٍ واحِدٍ وإنْ أقامَ أحْوالًا، فلا أعرِفُ لَهُ مُستَندًا في وَقتِي هَذَا.
فالَّذِي يَترجَّحُ لِي مِنْ هذِهِ الأقوالِ، القَوْلُ بأنَّهُ ليْسَ في الدَّيْنِ المُؤجَّلِ زَكاةٌ بِناءً عَلَى البَراءَةِ الأصليَّةِ، واللهُ تَعالَى أعلَمُ.
---------
(1) اختِلافُ العُلماءِ (1/112)، لم يفرِّقْ أبو حَنيفَةَ في الزَّكاةِ بَيْنَ الدَّيْنِ الحالِّ والمؤجَّلِ.
(2) مُختَصرُ اختِلافِ العُلَماءِ (1/434)، حاشِيَةُ رَدِّ المُحتارِ (2/307).
(3) الاستِذكارُ ( 9/96). لم يُفرِّقْ مالِكٌ في الزكاةِ بَيْنَ الدَّيْنِ الحالِّ والمؤجَّلِ.
(4) الاستِذكارُ ( 9/96).
(5) معرِفَةُ السُّننِ والآثارِ (6/154).
(6) المَجموعُ شَرحُ المهذَّبِ (5/509).
(7) طَريقَةُ الخِلافِ للأسمندِيِّ ص 15-16.
(8) بِدايةُ المُجتَهدِ 1/ 273.
(9) مَعرِفَةُ السُّنَنِ والآثارِ (6/154).
أخُوكُم/
خالِد المُصلِح
10/09/1424هـ